المرأةمقالات الرأيمنوعات

ممنوعات (2) : “ولا تدعوا على أولادكم”… دعاؤكم عليهم دعاءٌ على الأُم..!

فن الكتابة فى الصفحة البيضاء..

[[خِلصِت روووحك… اتفلِق…. يخرب بيتك… يخرب عقلك…!]] إن كنتِ ممن يقولونَ تلك الجمل أو شيئًا منها لأبنائِكِ حال الغضبِ منهم، وتُسرِفين فيها دونَ مراجعةٍ وتوبة، وعلى أمورٍ دنيويةٍ تافهةٍ غالبًا أو أمورٍ لكِ فيها حظوظُ نفسٍ، فلا تظنِّي أن هذِه دُعاباتٌ من الكلامِ أو زلاتٌ مَغفُورَةٌ منسيةٌ مارَّةٌ مرورَ الكِرام…
ومثلها: أتاكَ الرَعدُ في أذنَيكَ..! أتاكَ العَمَى في عينيكَ..! ضُربْتَ في قلبِكَ…!! أحرقَ اللهُ دمَك…! دَهَسَتْكَ قاطِرَةٌ…! قُطِعَتْ رقبتُك…! قُصِمَ ظَهرُك…! شُلَّتْ أركانُك…! سمَّمَ اللهُ بدنَك…! لعَنَكَ اللهُ…!
كلها بالطبعِ بعدَ ترجمتِها للفُصحى، فسماعُها بالعاميةِ أشدُ إهانةً وبأسًا وتنكيلًا…!
وغيرُها مما يتَحَرجُ القلمُ مِن كتابتِه، ويحمِلُ غِلًا وغَلَيَانًا عَجيبًا يستَحِثُّ انتقامَ اللهِ للآباءِ مِن الأبناءِ في لحظةِ غضب، ثم يَنسَونَها وكأنها لم تكن..!
فلا تظني أنها مَغفولٌ عنها، بل كلُها أدعيةٌ صريحةٌ على ولدِك، تُقْلِعِينَهُ بها من تُربَةِ الأمانِ وتَزرَعينَه في أرضِ الخوف، ناهِيكِ عما فيها من إهانةٍ، فتكسِرِينَهُ مرتينِ بل ثلاثَ، بل مراتٍ ومرات…
هذا بخلافِ تعويدِه بذلك على  اللعنِ والمبالغةِ في الانفعالاتِ والشططِ في المشاعرِ وعدمِ السيطرةِ على غضبِ اللسانِ وآفاتِه، بدلًا من تعويدِه على العِفةِ والنزاهةِ والرقيِّ والأدبِ وقولِ التي هي أحسنُ… كيف -بربكِ- ستُلقنِينَه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الإسراء:53] و «ليسَ المؤمنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ» (رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني)؟
دَعُوني أقُصُّ عليكم قِصةَ أمٍّ من هؤلاءِ عفا اللهُ عنها..
ظَلتْ تَشكُو إليَّ من ابنِها ونِسيانِه لكثيرٍ من طلباتِها وفَشلِهِ في تلبيةِ كُلِ احتياجاتِها نظرًا لظروفِهِ المَعِيشيةِ الصعبةِ التي هي تَعلَمُها وتُدرِكُ صعوبَتَها وتُطالبِهُ بالمثالية رُغمَ ذلك..
فقلتُ لها هداهُ اللهُ، نظرًا لأني لم أُعُدْ أملِكُ أيَّ ردٍ غيرَ ذلك، فلا جدوَى من أيِّ نُصحٍ أو استعطاف..
فردّت قائلةً بالنَّص: “سواء ربنا يهديه أو ما يهديهوش، هو مش نافعني في حاجة كده كده.. ربنا يحرق دمه زي ما هو حارق دمي..”
حين أسمع أمامي أمًّا تقولُ على ابنِها: “ياربِ ينكِّدْ عليك زي ما نكّدت عليا ويوجَع قلبك زي ما بتوجع قلبي” أو “ربنا يشلَّك وينتقم منكَ ويحرَق دمك زي ما بتشلِّني على ما تعمل لي إللي بطلبُه”، أشعر بذهولٍ وصدمةٍ عَقليةٍ مُتجمدة..!
حسنًا… أين الخللُ…..؟ ربما تظنون أنه في اللسان.. وربما في الأخلاق… لكنْ -ولا عجبَ!- إنه في العقلِ والقلبِ..
إن قناعةَ الأم أنها ليست مُلامَةً أن تفعلَ ذلك، يَدلُ على خَلَلٍ في إخلاصِ النيةِ في التربيةِ للهِ ربِ العالمين، إذ تجعلُ لِذاتِها مِن أبنائِها حَظَ نَفسٍ، إن لم تحصلْ عليهِ بالحُسنَى منهم طَفِقَتْ مَسحًا بالسوقِ والأعناق..!
“يا رب يهِدَّك عشان أرتاح شوية من تنطِيطَك وكَركَبتَك”؟
سبحان الله..!
وحتى تلك الأم الأفضل، التي لا تريدُ من ابنِها إلا أن يهتدِيَ للخيرِ ولا تدعُو عليهِ لمصالحَ دنيويةٍ ولا حظِّ نفسٍ، ليسَتْ بعيدةً عن الخَلَلِ إذا دعتْ على ابنِها حين يُعانِد!
لكنه خللٌ من نوعٍ آخر: خَللُ المَنطِق..
إذ كيف يُقنِعُني أحدٌ أنها تَدعُو على وَلدِها -وهي بوعيِها!-أن يزيدَهُ اللهُ عذابًا وشقاءً وفشلًا، لأنه لا يريدُ أن يستجيبَ ويجتنبَ طريقَ العذابِ والشقاءِ والفَشَل…!
“يارب تسقَط وتعيد السنة عشان مش راضي تقوم تذاكر”…..!
سبحان الله..!
فالأمُ الأُولَى خلُلها في إخلاصِ النيةِ للهِ والتي محِلُّها القلبُ، والثانيةُ خَلَلُها في إِعمالِ العَقلِ وتَغليبِهِ على العواطِفِ.. وكلتاهما لديها خَلَلٌ واضحٌ في الأمومة…!
لأجلِ ذلك نقول: إن عَلاقَةَ الدعاءِ على أولادِنا// بالنيةِ مِن التربيةِ ووُضوحِ الرؤيةِ في ذلك عَلاقةٌ طَردِيَّةٌ: كُلما استَحضَرتِ غايتَكِ التَربَوِيةَ= كلما أشفَقْتِ مِنَ الدعاءِ عليهم واجتنَبتِهِ مهما أُحبَطتِّ بخُذلانٍ أو عنادٍ أو تأخُرٍ للثمرة..
النيةُ من التربيةِ إذًا ألفْ باءْ أمومةٌ وعبودية..
لا يصحُ أن ننسَى لماذا نُنجِب..
نحن لا نُنجِبُ خدمًا تحت أقدامِنا..
نحن ننجبُ خَدَمًا تحتَ أقدامِ الأُمة..
ودعاؤنا عليهم دعاءٌ على الأمةِ بالنقصانِ والفشلِ والتعثرِ والخيباتِ..

قد نتفهمُ مبرراتِ ودوافعَ الصياحِ الشديدِ لإحدى الأمهاتِ أو حتى ضربَها بعنفٍ لولَدِها في لحظاتِ انفعالٍ وإحباطٍ -وإن لم نَعذُرْها قَطعًا..
لكن في النهايةِ: قُوةُ ضربتِها لَه هي قُوةُ ضَربِ “إنسان” لـ “إنسان”..
لكن أن تستسهلَ الأمُ بسببِ نفسِ الدوافِعِ -غيرِ المُبَررةِ- أن تُفَوَّضَ “ربَّ الكونِ القويَ المتينَ” بقُدَرتِهِ المُطلقةِ وبطشِه الشديدِ، أن يُعاقِبَ ولدَها وينتقمَ لها مِنه..!!
فذلك هو ما لا أتفهمُه مُطلقًا ولا أتعاطَفُ معه ويَصدِمُني كلَّ مَرة..
نعم… اللحظةُ التي تتحولين فيها من كائنٍ يُضرَبُ به المَثَلُ في المَرحَمَةِ وصَدِّ الأذَى عن ابنِها ولو كانَ مِن “لدغَةِ نامُوسةٍ” إلى كائنٍ مُستَمطِرٍ للأذَى على فلذَةِ كبِدِها مِن القويِّ شديدِ العقابِ ذِي الطَولِ سبحانه، وتعَلَمِينَ أن دعوتَكِ مُستجابَةٌ اعلَمِي أنكِ الآن فاقِدَةٌ للأمومةِ الحَقةِ والخَالِصةِ لوجهِ الله.. حتى تستفيقِي وتُصلِحي..
فكما أن السكرانُ فاقدٌ لعقلِهِ حتى يَفِيقَ… فإن الأمَّ التي تدعو على ابنِها فاقدةٌ لأمومتِها حتى تَفِيقَ..
اللهُ أعطاكِ سِلاحًا -الدعاءَ المستجابَ- رحمةً منه لَكِ.. ليُدرِكَ الأبناءُ قَدْرَ مَعيّةِ اللهِ لكِ فيوقِّرُونَكِ ويبَرُّونَكِ ويهابُونَ غضَبكِ ويُطِيعونَكِ في المعروف.. لا لكي تذبحيهم به..
يا طيبة.. فلا تذبَحِي أبناءَكِ برحمَةِ اللهِ لك..
الخلاصةُ…
• دعاؤكِ على ولدِكِ من الدعاءِ المستجابِ.
• وهو سلاحٌ أودعَهُ اللهُ مَعَكِ أمانةً وامتحانًا.
• لا تقتُلِي بهِ أولادَكِ انتقامًا لنفسِكِ بزَعمِ أنكِ تريدينَ أن ينصَلِحَ حالُهم.. هذا إفسادٌ من حيث تريدين إصلاحًا.
• دعاؤكِ عليهم دعاءٌ على الأمةِ الإسلاميةِ أن يزدادَ فيها عددُ الفشلةِ والمتعثرينَ والخائبين.
• لن نغنمَ شيئًا حين ندعو أن يذيقَهم اللهُ ما أذاقونا إياه في تربيتِهم، ولا ينبغِي لذلكَ أن يُدخِلَ علينا السرورَ إن حَدَث.. فلا تنسَيْ قِصةَ أمِ جُرَيجٍ وما حَدَثَ لهُ بدعوتهِا عليهِ حينَ تأخَّرَ عن تلبيةِ ندائِها مِرارًا فقالت: “اللهم لَا تُمِتْهُ حتى تُريَهُ وجوهَ المومِساتِ”.. وقد كان.. تَعَرَّضّتْ له المُومِساتِ وظُلِمَ واعتُدِيَ عليهِ وتَعَلَّم كلاهُما الدَرسَ بالدمِ، حتى قالَ حين استفاقَ: أصابَتْنِي دَعوَةُ أمِ جُرَيج..
• فلن تَفرَحِي حينَ تَجِدِينَ ولدَكِ وقد كُسِرَ ظهرُه أو أُصيبَ بعاهةٍ من حادِثٍ مثلًا سبقَهُ دعاؤكِ عليهِ لتَعَنُّتِهِ في مُذاكرَةٍ أو مهامٍ منزليةٍ ونحوُه… أنتِ بذلك تكسرين قلبَكِ مرتين.. ألا تَكفيكِ كسرتُكِ من بَعضِ عقوقِهِ ذاك؟ وواللهِ إن تلكَ الكَسرَةِ أهونُ وتَنجَبِرُ بإذنِ اللهِ بالدعاءِ لَهُ والحوقلةِ كثيرًا والصبرِ والحِلمِ {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ}[البقرة:45].. لكن عاقبةَ الدعاءِ عليهم لا تَنجَبِرُ…
• الوالِدِيَّةُ الحَقَةُ لا مكانَ فيها للتشفِّي والثأرِ للذاتِ وتنفيسِ الغِل.. بل هي قَلبٌ مُخلِصٌ للهِ يَحمِلُ هَمَّ الأمةِ، وعينٌ ساهرةٌ على ترميمِ كسرِها بإصلاحِ أبنائِها، مهما كانت مشاكلُهم شاقةً ومُنهِكةً وخانِقةً، فالثمرةُ تستحقُ:   {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جميعاً}[المائدة:32] فاستهدِي بالهادِي الحليمِ الصبورِ.. وربِّي ولدَكِ بالدعاءِ له لا بالدعاءِ عليه.. وردِّدِي دومًا: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فإن سألتِ:} [الأحقاف:15].
ألم يَقُلِ النبيُّ ﷺ لبعضِ صحابتِه ثَكِلَتْكَ أمُكَ بل ودعَا علَى بَعضِ أهلِه؟ وما الحَلُ لِمَن دَعَتْ بالفعلِ عليهِم وينهَشُها الخوفُ الآنَ من إجابةِ اللهِ لدعائِها؟ وَمَن تابتْ وتجاهدُ ولكن لازالَ لسانُها يَفلِتُ، فماذا تفعلُ إلى أن ينتهِيَ هذا الأمرُ مِنها؟ وما قصةُ جُرَيجٍ وأمِه؟
فالجوابُ في المقالةِ القادمةِ بإذن الله…

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى