تحقيقات وحواراتسياسةعرب وعالممقالات الرأي

إسرائيل بين صورة القوية الفتّاكة والضحية المُنكَسِرة…

بات الفلسطينيون فريسة للدعاية الإسرائيلية، مما يلقي بهم في صورة غير مواتية للحقيقة، وقد وضع ذلك الفلسطينيين في وضع صعب يجعلهم بشكل دائم مضطرين إلى الدفاع عن أنفسهم في مواجهة الادعاءات بأنهم يهددون أمن إسرائيل، بدلًا من الدفاع عن حقهم في الأرض والأمن والحي
منذ عقود، تقوم إسرائيل بلعب دور الضحية المُنكَسِرة التي لا تستطيع بمفردها أن تواجه “عدوان” المقاومة الفلسطينية و”إرهاب” الشعب الفلسطيني المدافع عن أرضه المغتصبة، هذا دور ممتع بكل المقاييس للإسرائيليين، لأنه يكسبهم تعاطفًا دوليًا واسعًا، ومن ثمَّ تتدفق شحنات الأسلحة والمساعدات العسكرية المختلفة من أجل تقوية شكوتهم للدفاع المزعوم عن أنفسهم، وبالرغم من التقدم العسكري والتكنولوجي الذي وصلت إليه إسرائيل، والذي تتباهي به في كثير من الأحيان، إلا أن الإسرائيليين مصرّين على الإبقاء على تصوير أنفسهم على أنهم الضحية، وذلك حتى لا تُنزَع شرعية حجتهم أو تضعف وجهة نظرهم في أنهم ضحايا وبحاجة دائمة للمساعدة والدعم، وهو الموقف الذي يستدعي التعاطف الدولي معهم حتى وإن كانت طائراتهم في نفس الوقت تدق منازل أهل غزة أو قواتهم الأمنية تطلق الرصاص على أهل الضفة الغربية أو تعبث صواريخهم بالأمن الإقليمي للمنطقة هنا أو هناك، ومن المفارقات أن الإسرائيليين الذين يجيدون اللعب بهذا التكتيك ناجحون تماما حتى الآن في كسب التعاطف والدعم الغربي على أنهم ضحايا أمام العرب والفلسطينيين، وفي ذات الوقت أيضا كسب ثقة الغرب بأنهم قوة عظمى يمكنها مواجهة إيران وغيرها من التحديات التي قد تضر بالمصالح الغربية في المنطقة، وهو ما يعني حصولهم أيضا على مزيدٍ من الدعم والتأييد.
 بعد الحرب العالمية الثانية، كان العالم الغربي يشعر بالذنب حيال اليهود، فأراد أن يعوّضهم عن اضطهادهم المزعوم، فمنحهم وطنًا في أرض لا علاقة لهم بها، وبدلًا من تعويض الضحايا اليهود عمّا لَحِقَ بهم وبأسرهم، أسس الغرب لهم كيانًا جديدًا يعيشون بالكامل دور الضحية على الدوام، وذلك بالرغم من أن الموجودين فيه الآن لا علاقة لهم على الإطلاق بالمأساة اليهودية المزعومة، إنها “فن صناعة الهولوكوست طوال الوقت” كما يسميها نورمان فينكلشتاين، الكاتب والأستاذ الجامعي الأمريكي اليهودي المعروف بمساندته للقضية الفلسطينية وكره استخدام اليهود للمحرقة كوسيلة لجذب التعاطف العالمي والتغطية على جرائمهم ضد الفلسطينيين، يرى فينكلشتاين أن إسرائيل جعلت من نفسها ضحية لكل شيء، هي ضحية في الداخل بسبب الفلسطينيين، وضحية في المحيط الإقليمي بسبب تهديدات حزب الله وإيران، وضحية للتهديد في كل مكان في العالم بسبب ما يطلقون عليه معاداة السامية، إجمالًا لقد غطى الإسرائيليون تقريبا كل مساحة ممكنة تجعل منهم ضحية للغير، وفي ظل هذا الوضع يصورون أنفسهم على أنهم أمة ديمقراطية ومسالمة في بحر من العداء العربي والعالمي، هذه الوضعية تمنح إسرائيل باستمرار المبرر للتأكيد على أن أمنها يأتي أولًا، متجاوزة أي اتفاقيات سلام أو تسوية مع الفلسطينيين، لقد انطلى هذا المنطق الملتوي على العالم لفترة طويلة حتى أنه لم يعد موضع تساؤل أو نقاش، وفي ظل هذا الوضع المقلوب أصبح الضحية جاني، والجاني ضحية، وبات الفلسطينيون فريسة للدعاية الإسرائيلية، مما يلقي بهم في صورة غير مواتية للحقيقة، وقد وضع ذلك الفلسطينيين في وضع صعب يجعلهم بشكل دائم مضطرين إلى الدفاع عن أنفسهم في مواجهة الادعاءات بأنهم يهددون أمن إسرائيل، بدلًا من الدفاع عن حقهم في الأرض والأمن والحياة.
 بالرغم من كل هذه المكتسبات التي حظيت ـ ولا تزال تحظى ـ بها إسرائيل، فإنها تُبقي على صورتها كضحية للتاريخ الذي يزعم اليهود أنه ظلمهم في عصوره المختلفة، وضحية للجغرافيا التي وضعتهم في منطقة لا تقبل بوجودهم كمحتلين ومغتصبين لأرض الغير التي يزعمون إنها أرض ميعادهم، في غضون ذلك تواصل إسرائيل احتلال الفلسطينيين وأرضهم، وتواصل توسيع المستوطنات غير القانونية، وتواصل الحفاظ على حقها في قصف الفلسطينيين واعتقالهم وقتلهم ومضايقتهم متى شاءت وكيف شاءت، في ظل هذا الوضع المنقلب، لا بد من الانتباه إلى عدم توازن القوى بين القدرات العسكرية الفلسطينية والإسرائيلية، وهذا ما أكده المؤرخ اليهودي ياكوف رابكين، أستاذ التاريخ في جامعة مونتريال الكندية في كتابه “تهديد من الداخل: قرن من معارضة اليهود للصهيونية”، حين قال إن “على إسرائيل التوقف عن لعب دور الضحية ومواجهة الحقيقة بشأن سجلها الإجرامي، لا يمكننا استخدام مصطلح الصراع فيما يتعلق بالوضع الحالي، لأننا نتحدث بشكل أساسي عن سكان مدنيين يواجهون أحد الآليات العسكرية الأكثر تطورا في المنطقة، مثل هذه العواقب (العدد الكبير من الضحايا بين الفلسطينيين) تحدث عندما يكون هناك مثل هذا التفاوت في ميزان القوى”، هذا الواقع القائم سيظل باقيًا ومستمرًا، فاعتماد إسرائيل بالأساس على صبغتها العسكرية وعلى استنفار شعبها الدائم هي ركيزة أساسية لوجودها، وقد أعرب عن هذه الحقيقة الرئيس الإسرائيلي الأول ديفيد بن غوريون حينما قال: “إسرائيل عبارة عن مجتمع عسكري”.
 لا يمكن لوم إسرائيل وحدها على ذلك، فالسياسة الغربية ـ وخاصةً الأمريكية ـ طويلة الأمد المتمثلة في حماية إسرائيل من النقد الدولي وتعزيز موقفها في الأمم المتحدة، تدلل على وجود إجماع غير معلن على أن إسرائيل يجب أن تتمتع بحصانة استثنائية، ربما لأن ما تفعله إسرائيل ـ بطريقة أو بأخرى ـ لا يختلف كثيرًا عما تفعله الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية في أجزاء مختلفة من العالم، لذلك هناك تشابه في الرؤى والجميع يسيرون على نفس الخطى، يرى الغرب في نفسه أيضا ضحية للإرهاب وأن شعوبه ضعيفة ومنكسرة في مواجهته وأنهم بحاجة للدعم والتأييد، وفي نفس الوقت هم أقوياء وأشداء ولديهم المبرر الأخلاقي المقبول لاستخدام القوة الساحقة في أي مكان من العالم من أجل حماية أنفسهم وتأمين شعوبهم، لكن ثمة مفارقة مهمة، فعلى عكس الغرب الذي يمكنه ببساطة ترحيل قواته من البقعة التي يحتلها والعودة إلى الوطن، ليس لدى الإسرائيليين رفاهية حزم الأمتعة والطيران بعيدًا، لن يقبل العالم الغربي بهم في أوطانهم الأم مجددًا، لذا فإن إسرائيل مضطرة حتمًا إلى إظهار قوتها العسكرية بطريقة مقنعة على الدوام، كما أن اليهود والغرب على حد السواء لا يريدون نفي حقّ إسرائيل في الوُجود، لذا فإنهم يعتبرون التفوق اليهودي مبرَّرًا وينبغي أن يدوم.
 قبل خمسة عقود، شنت إسرائيل ضربة استباقية نتج عنها ما يُعرف باسم حرب الأيام الستة، وذلك ببساطة لأن هذا كان هو الوقت الذي استغرقته إسرائيل لضرب ثلاث دول عربية أخرى وتوسيع أراضيها ثلاثة أضعاف، كانت أكبر مأساة لتلك الحرب – التي عرّفها العرب لاحقًا بالنكسة – هي أن هزيمتها لم تنته عندما تم توقيع وقف إطلاق النار في 11 يونيو 1967، فبدلًا من ذلك كانت دافعًا لإسرائيل كي تزداد قوة، ويمكن للمرء أن يجادل بشكل مقنع بأن انتصارات إسرائيل مثيرة للإعجاب، وهي كذلك بالفعل من الناحية العسكرية والعلمية، وفي المقابل فإن العرب لم يرفعوا سقف طموحاتهم عاليًا، وعلى عكس إسرائيل التي لعبت بالتزامن دور القوية الفتّاكة والضحية المُنكَسِرة، دأب العرب على الإبقاء على صورتهم كضحايا يبحثون عن حقهم الضائع في فلسطين والجولان السورية، وارتدوا إلى وضع كان أسوأ مما كانوا عليه قبل نصف قرن، والمؤسف أن العرب اليوم أبعد ما يكونون عن تحرير فلسطين مما كانوا عليه بالأمس، والمستفيد الرئيسي من هذا الوضع هي إسرائيل وحدها بلا شك.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى