هو اللذي لم يمل من حلمه بأن يسكن تلك الأرض مرة أخرى، بأن تغمره رائحة ذلك الطمي مرة أخرى، أن يتمدد بجلبابه القصير إلى جانب النهر مرة أخرى لكن الأيام مرت وشيب الدهر قد كسى ما تبقى من شعر رأسه ومشيته المعتدلة بدأت تتأرجح وظهره المنتصب قد إنحنى وانحنى له الحلم وأصبح يمني نفسه بأن تطأ قدمه ذلك الموطن مرة قبل ان تخلعه الروح.
لم يعهده الناس في قريته الجديدة تلك إلا عبوس الوجه، قليلا ما يتحدث إلى الناس أو يشاركهم في أي شئ، منذ أن قدم إلى هذا المنفى مع الجميع لم يقم صداقة إلا مع جاره أنور، إذا ضاق ذرعا من الصمت لا يبوح بما لديه إلا له.
لم يأبه احد من الحضور أو لم ينتبهوا لقفزات إدريس الراقصة الذائبة في الفرحة وتمايله المنسق المرح وكفوفه المضوية المتناغمة مع الطبل، لم ينتبهوا لإبتسامته الجديدة التى بدلت ملامحه وأحالته لشخص آخر لم يعهدوه، لم يكونوا ليعرفوه لو نظروا لكن أحدا لم يعره إهتماما، ربما لإنشغالهم بالرقص والغناء، وحده أنور لم تبتعد عيناه لحظة عن إدريس غير أن سحابة من الدمع لم تحتملها جفونه حجبت الرؤية فرفت عينه وتذوق ملوحة الدمع ثم كفكف دمعه وأجفل لإدريس مناورا بتحيته للفنان كي يفسح له الراقصون مجالا ليمر بينهم وحين اقترب من إدريس بدأ بالتصفيق والرقص كالجميع وفي ترديدهم وراء المغني، انتبه له إدريس وبادله البسمة بالبسمة ومضى في ما كان عليه إلى أن أحس بالهلاك من فرط المجهود فاكتفى وجلس جانبا وسريعا ما إنضم إليه أنور. ظلت أنفاس انور تهدأ وإدريس جاحظ العينين يزفر وتركيزه منصب على الفتية في حلقات الرقص كأنه أراد الاستمرار إلى أن يلهث هؤلاء الشباب
“عاد إليك الصبا يا إدريس” قالها أنور وهو يتأمل صديقه، لم يسمعه إدريس، كانت روحه غارقة في دموعه المختبئة بعرقه المتصبب ووجدانه المرتحل بين الوجد والنزوع، إلى أن انتهى الحفل والسمر وانفض الجمع.
إدريس لم يخرج من حالة الهيام تلك لثلاث ليال سويا إلى ان ركب مهاجرا من هذا المكان مرة أخرى. تلك الرحلة التي نظمها اهل قريته إلى الموطن بعد إذان الحكومة بقرب عودتهم إليه، لم يرد لها إدريس أن تنتهي، لكنها انتهت ومر عامان ولم تفي الحكومة بما قطعت من وعود وهاهو اليوم على ظهر دابته العائدة به إلى المنزل، اجتمع في يده حبلان يجر بهما بقرتيه وعيناه معلقة بالزراعات في المدى، يتمنى أن تتبدل هذي بتلك، تناثرت الذكريات وظل يتفكر إلى أن وصل إلى البيت، باغتته إمرأته عندما أخبرته بخلل ألم بأنور فقد سقط مغشيا عليه وهو عائد من السوق وحمل إلى بيته محموما يهذي، شعر بغصة لما سمعها تقول “كأنها السكرات يا إدريس” فصرخ في وجهها أن “اصمتي” واندفع لبيت أنور، وجد زوجته وبناته وقد انكفئوا يكمدونه وهن يبكين، لم يحتمل إدريس ان يرى رفيقه في هذه الحال فذرفت دموعه رغما عنه وأسرع لإقتياد سيارة تنقل أنور الى المشفى.
في المشفى قال له الطبيب انها محض سخانة جراء المشي في شمس الظهيرة وانه لم يحتملها لهرمه واكتفى الطبيب ببعض المضادات وأشار عليه بوجوب الراحة وعادوا أدراجهم على غير هدي، ظل إدريس مصاحبا لأنور في علته تلك لليال غدت وليال قادمة.
منذ عامين، حينما نزل من العبارة لم يرى قريته التي طرد منها، لم يرى سوى بعض مظاهر الحضارة ولم يهتم، كانت رائحة الطمي أقوى من ان تتركه يفكر في سواها، والطيور الهائمة على صفحة النيل جعلته تائها، لا يعرف إلى أين منتهاه، ذلك الهواء العليل الذي تضخم له صدره جعله يشعر كأنما خلاياه تجددت وعاد لهيئته القديمة فتى قوي منتصب الظهر مستقيم المشية كما رحل مع آله مهاجرا منفيا منذ زمن بعيد. في هجرته القديمة كان يعلم من نظرة أباه للبيت أنه الوداع، هي ليست رحلة للمشفى وهم ليسوا في طريقهم لعنيبة، يرحل الجميع حاملين كامل أمتعتهم بل والبهائم أيضا. ركب عنوة خاضعا لأمر أباه، لم يتمالك نفسه حين توارت البيوت وأراد أن يقفز من الباخرة لولا أيادي الجميع، ليتهم تشبثوا بالأرض كما فعلوا معه.
الليلة أراد أن ينام ببيته فقد اطمئن على خليله بدأ النعاس أخيرا يعاوده في رفق، في المنام جائه أنور مبتسما مضيئا كعادته وربت على كتفه وبصوت ملئه الشجن قال “سامحني” قام ادريس من غفوته فزعا وقفز مسرعا عندما سمع صوتا من المسجد المجاور يذيع “إنا لله وإنا إليه راجعون”، لم يتركه طوال الليل إلى أن استقرت حرارته وهاهو أنور حنث بوعده أنه سيدفن هناك كما فعل والده حين مات ودفن في المنفى قبل ان يبر يمينه بأنهم عائدون، اليوم أنور ترك لإدريس قيح في جوفه وأثبت له كما فعل كل من أتى لهذا الجحيم قاطبة أن المنفى ليس إلا وطنا مجبرا عليه وسيواريه ثراه.