تحقيقات وحوارات

الزواج في خريف العمر إرضاء للغرور أم بحث عن الحب والاهتمام

الرغبة باستعادة الشباب هو حتماً ما يتوق إليه ذلك الرجل الستيني عندما يصرّ على خوض حياة زوجية جديدة وإنجاب الأطفال. أما مشهد تلك الأرملة مع أبنائها وهي في الخمسينيات، تطالب بأن تعيش حياتها باحثة عن الحب والاهتمام، ولو بزوج يصغرها بعشرين عاماً، يثير استنكار وتساؤل المحيطين بها فما حاجة هذه الفئة العمرية من الرجال والنساء الى الحب والعاطفة، ولمَ الاستخفاف بهذه الزلة واعتبارها نوعاً من بدايات الخرف والجنون؟ البعض يستنكر بحث هذه الفئة عن متعة الحياة، ظناً منهم أنهم «رجْل في الدنيا ورجْل في الآخرة»، وأن الأولى والأجدر بهم ملازمة سجادة الصلاة والاعتكاف للعبادة، لا الزواج والحب في هذه السن، وفي غمرة الحيرة ما بين وصف هذا الزواج بـ«المتأخر» أو  بـ«زواج آخر العمر»، يبقى السؤال هل يموت الحب في قلوب الأحياء؟…

تحدى أبناءه بالزواج من ثلاثينية وأنجب أطفالاً وهو في الستين 

سمير صالح (39 عاماً) هو أحد الأبناء الأربعة عشر الذين أنجبهم والده، والذين أصبح بعضهم أجداداً وجدّات، ولكنهم لم يتمكنوا من ردع أو حتى احتواء والدهم الستيني الذي ترمّل منذ بضع سنوات، وبقي مُصرّاً على الزواج مرة أخرى بدعوى أنه لا يزال يتمتع بالصحة والعافية وبأنه بحاجة إلى سيدة تهتم به وترتّب أموره وسط انشغالات أبنائه وبناته. وبعد طول إلحاح في البحث له عن زوجة مناسبة وعدم تجاوب أبنائه وبناته مع مطالبه، اتجه والد سمير للبحث بنفسه، حيث وضع أبناءه تحت الأمر الواقع وتزوج من سيدة ثلاثينية مطلّقة، وكانت الصدمة الأعنف حملها بتوأم بعد بضعة أشهر من الزواج، وهم يرون بذهول سعادة والدهم الغامرة بذلك، وكأنه يُنجب للمرة الأولى. وبعد ثلاث سنوات على هذا الزواج، وقع الطلاق إثر خلافات معقّدة ومزمنة لعدم التكافؤ واستحالة الوفاق. وتركت لهم زوجة والدهم التوأم ورحلت. أما الضربة القاضية فكانت حين تبيّن لهم أن رغبة والدهم بالزواج لم تنطفئ بعدُ وما زال يبحث عن عروس.

ثرثرات الجيران حول زواج أرملة في الخمسين
تروي فاطمة عبد الله(42 عاماً ) قصة جيرانهم التي ظلّت محلّ ثرثرة أهل الحارة لفترة، حين توفي زوج جارتهم منذ فترة وترك وراءه زوجته التي كانت تبلغ من العمر خمسين عاماً، وبعد عام من الوحدة عانتها الأرملة بسبب ندرة زيارات أبنائها وبناتها لها، حيث كل منهم متزوج ولديه أولاد، ومنهم من يقطن خارج المدينة. وكانت فاطمة (محدّثتنا) تزورها باستمرار لكونها سيدة «وحدانية» ليس لها أحد، وفي كل مرة تجد نفسها مبهورة باهتمامها بنفسها وبصحتها وعدم ظهور آثار عمرها على شكلها. وبعد فترة من الانشغال والابتعاد عن الجارة، سمعت فاطمة من إحداهن أن جارتهن الأرملة ستتزوج من رجل يصغرها بخمسة عشر عاماً، وأن أولادها يعارضون بشدة هذا الزواج لأسباب عدة، منها الخوف من كلام الناس، خصوصاً أن ذلك الرجل كان يعمل لديهم. وبعد فصول من الأقاويل والتراشق الكلامي بين الجيران، باعت الأرملة الخمسينية البيت ورحلت عن الحي.

«الثالثة ثابتة»
العمل والاحتكاك المستمر بالناس يمنحان حب الحياة، والتمسك بكل ما شرّعه الله في سبيل إسعاد النفس. هذا كان رأي السيدة ضياء محمد ــ 51 عاماً ــ التي تزوجت ثلاث مرات ولم تنجب، وتضيف أن زواجها الأول كان تقليدياً وفاشلاً لانعدام التفاهم، وزاد الأمور تعقيداً عدم قدرتها على الإنجاب فوقع الطلاق. غير أنّ ضياء استطاعت الخروج من محنتها فعادت إلى العمل واستأنفت حياتها الطبيعية. في تلك المرحلة، تعرّفت ضياء إلى طليقها الثاني الذي كان متزوجاً ولديه أولاد، وأحبته وأحبّها فتزوجا. لكنه اشترط بقاء زواجهما سراً… وبعد عامين على الزواج، دبّت الخلافات بينهما لكون زوجته الأولى اكتشفت أمر زواجه. وزادت الأمور تعقيداً حين كثر انشغاله بأمور عائلته وأهملها، فدهمتها الوحدة القاتلة وطلبت الطلاق فكان. وتقول ضياء، إنها بعدما يئست من الزواج إثر طلاقها مرتين، عادت إلى العمل الوظيفي لتملأ حياتها. وبعد فترة من الاستقرار جاءها عرض بالزواج من رجل أرمل يكبرها بثماني سنوات، فوافقت ضياء لحاجتها إلى الشريك والرفيق الذي يفهمها ويؤنس وحدتها، خصوصاً أن أولاده لم يعارضوا زواج أبيهم منها، بل رحّبوا بوجودها كزوجة أب.

أرادت إغاظة طليقها فخسرت أولادها
تزوجت في عمر متقدّم حتى تغيظ زوجها السابق. هي قصة إحدى معارف سناء خالد (46 عاماً) ، والتي كانت سيدة جميلة جداً وكثيرة الاهتمام بنفسها وببيتها وبزوجها، وكان يستحيل على أحد التفكير بأن زوجها يمكن أن يتزوج بامرأة أخرى، لما كانت تتمتع به من جمال وعلم ولباقة… إلى أن فوجئ الجميع «بارتباط» زوجها، خارج المملكة، بسيدة لم تنه المرحلة الابتدائية وتصغره بخمسة عشر عاماً! وتؤكد سناء أن قريبتها كادت تُجن عند معرفتها بزواجه، وقررت السكوت والتزام الصمت والبقاء لتربية أصغر أولادها الذي كان يبلغ حينها 14 عاماً، وظلت صابرة فيما كانت تعاني الظلم والهجر، إلى أن التحق ابنها هذا بالجامعة، فجاهرت بطلب الطلاق، الذي حصلت عليه فوراً وبدون مماطلة من زوجها الأول، لتعلن بعدها بفترة قصيرة زواجها من رجل آخر يصغرها بسبع سنوات وهي في أواخر الأربعينات. وقتها استهجن الجميع خطوتها الجريئة ووصموها بالوقاحة، وقاطعها أبناؤها وبناتها بعد سماعهم الخبر لاعتبارها جلبت «كلام الناس» عليهم.

قطيعة ومشاكل لزواج والدهم
لم تتوقع دارين أسعد (38 عاماً) زواج والدها على أمها، حيث مثّل هذا الخبر لها ولإخوتها، مفاجأة غير متوقعة من دون سابق إنذار. فوالدها الذي على مشارف الستين قد انتقى عروساً بعمرها هي ابنته، مُعللاً رغبته في الزواج بكونه كدّ وتعب طوال سني عمره، ولم يحظ طوال تلك السنين بما يريحه أو يجلب له الفرح، وأنه شعر في السنوات الأخيرة بـ «التهميش» والإهمال من جانب زوجته وأولاده، ويود أن يعيش ما تبقى من عمره سعيداً مع زوجة تحبّه وتهتم به. وتؤكد دارين أن لحظة بوح الوالد بتلك المشاعر كانت قاتلة بالنسبة اليهم، و«حلّت بنا فوضى عارمة، لأن كلاً منا راح يلقي اللوم على الآخر»، فيما همّت والدتها بطلب الطلاق، وتفاقمت المشاكل ووصلت الى حد القطيعة بين أفراد الأسرة الواحدة، إلى أن  توسط عم دارين وأهل الخير للصلح فهدأت «العاصفة»، وتكيّف الجميع مع الوضع الجديد.

«زواج آخر العمر» ليس حكراً على مجتمع معيّن

الدكتور منصور عبدالرحمن بن عسكر الأستاذ المشارك في علم الاجتماع في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، يتناول الموضوع من جانبه الاجتماعي فيقول: «الزواج المتأخر» أو «زواج آخر العمر» كائن في كل المجتمعات، ووجوده ليس حكراً على منطقة أو مجتمع معين، ولعل الأسباب تعود إلى ابتعاد الأولاد وانشغالهم عن والدهم أو والدتهم في هذا العمر. ومما لا شك فيه أن هذا الزواج مشروع ويحلله الدين، ما دام في إطاره الشرعي، وإن كان أحياناً يُنظر إليه نظرة سلبية من المجتمع، لما يسببه من إحراج للأولاد  ومشاكل اجتماعية قد تصل إلى الطلاق والمحاكم لأسباب مادية أو متعلقة بالإرث، دع عنك مشكلة إنجاب الأولاد في هذه السنّ المتقدمة بالنسبة الى الرجال، وعدم القدرة على تربيتهم على نحو سليم ومتوازن. أضف أن هذه الزيجات غالباً ما تكون غير متكافئة من حيث العمر، مما يلحق الغبن بأحد الطرفين.

زواج الأم المتأخر أكثر رفضاً من زواج الأب في مجتمعنا العربي
ويضيف الدكتور محمد حسن عاشور المستشار التربوي وخبير التنمية البشرية على كلام الدكتور عسكر، أن هذا الزواج وإن كان في سن متقدمة، إلا أنه حق واحتياج فطري وطبيعي، والأصل ألا يواجه بالرفض من أي طرف، ولكن قناعة المجتمع السائدة، عند الشباب خصوصاً، والتي تتمحور حول الأعراف الخاطئة أو الخوف من كلام الناس، أو ضياع الميراث، هي التي بدلت أصل القبول في هذا الزواج إلى الرفض والاستهجان. ويعد زواج الأم في مجتمعنا أكثر رفضاً من زواج الأب في عمر متقدم، ولعل من الأجدى أن يضع هؤلاء الأبناء والبنات أنفسهم في موضع والدتهم أو والدهم لدقائق معدودة، ويسألوا أنفسهم عن احتياجات هذا الأب أو هذه الأم، وتغير طريقة تفكيرهم لتجنب الصراع والتشنجات ودوامة المشاكل التي لن تفيد، ومحاولة الحوار بشفافية لمعرفة الغرض والهدف من هذا الزواج.

الإهمال والفتور العاطفي والجسدي من أهم أسباب لجوء الكبار إلى الزواج
من ناحية ثانية، يقول استشاري علم النفس العلاجي الدكتور شريف أمين عزام، إن أسباب لجوء كبار السن إلى الزواج قد تتعدى كونه مجرد «أزمة منتصف العمر» أو «مراهقة متأخرة»، وإن كانت تصيب فئات من الناس لانجذابهم إلى  البحث عن الحب والاهتمام حتى بعد تقدم السن. ويرى د. عزام أن الفتور والملل في العلاقة الزوجية أو الإهمال الحاصل من الأولاد أو الزوجة غالباً ما يكون السبب في لجوء الكثير من الرجال إلى الزواج في سن متأخرة، كون الرجل أصبح يريد التفكير بنفسه وعيش حياته بعد سنوات من العمل والكد. وقد يكون السبب أحياناً دافعاً نفسياً داخلياً لدى الشخص لعدم اكتفائه، مهما كان مدى اهتمام زوجته به، إذ يحاول الإثبات لنفسه ولمن حوله أنه قادر على الزواج والإنجاب، ليرضي غروره. و «أحياناً قد يكون السبب الجسدي أو الجنسي هو المُحرك الأساسي للزواج بهذا العمر، وهذا يكون لدى الرجال أكثر من السيدات اللواتي يبحثن عن الدعم العاطفي والاهتمام بهذا العمر. ولا يمكن أن ننسى العامل الاقتصادي الذي يلعب دوراً مهماً في دفع الرجل أو السيدة إلى الزواج ولو في سن متأخرة، فالقدرة المادية تشجع على اتخاذ هذا القرار من عدمه».

الأولاد قد يقعون ضحية السخرية والتهكم بسبب هذا الزواج
وفي ما يتعلق بأضرار هذا الزواج المتأخر، يشير الدكتور عزام إلى آثار سلبية عدة قد تحصل بسبب هذا الزواج، والتي منها إهمال أسرة الزواج الأول، سواء الأولاد أو الزوجة الأولى، وانشغال هذا الرجل بزوجته الثانية لدرجة أنه قد يُهمل واجبه حتى في الأمور المادية. كما أن الضرر الأكبر في الزواج غير المتكافئ من ناحية العمر، يصيب الطرف الأصغر سناً بسبب العجز عن تحمّل أعباء الحياة ومسؤولية تربية الأولاد بالنسبة إلى الزوج الذي ينجب في سن متقدمة. ويلفت محدثنا إلى أن «الخلافات حول الأمور المادية قد تكون من أهم الأضرار التي قد تقع في حال كان الوالد ميسوراً وتزوج، حيث يخاف الأبناء من ضياع حقوقهم». وأخيراً يعد الضرر النفسي الحاصل للأبناء هو الأكبر، لأنهم سيخافون من كلام الناس ومواجهتهم، وقد يكون موضوع زواج والدتهم أو والدهم مصدراً للسخرية والانتقاد، خصوصاً إذا كان الزواج غير متكافئ عمرياً أو اجتماعياً أو مادياً».

لتفادي القطيعة والمحاكم وبقاء الود
وللوصول إلى نقطة التقاء ما بين الأب أو الأم الراغبة بالزواج في سن متقدمة وبين أبنائهم، يرى الدكتور عاشور، أن الإقدام على هذه الخطوة في البداية لا بد من أن يكون بشكل مدروس من الأب أو الأم الراغبة بالزواج المتأخر، ومراعاة أمور مهمة هي: تكافؤ الأعمار، والتعقل في التصرفات بما يناسب السن، وعدم التفكير بأنانية، إضافة إلى عدم الإضرار بالأبناء والمساس بمصالحهم، وذلك لتجنب معاداة الأولاد والإبقاء على ودّهم. كما يحتم على الأبناء مراعاة مشاعر والدهم أو والدتهم ومتطلباتهما والتحاور بشكل ودي حول صوابية قرار هذا الزواج من عدمها، وتوضيح أسباب اعتراضهم من دون تجريح، مع ضرورة إعطاء انطباع التأييد والتضامن مع الأهل وتفهم احتياجاتهم، وفي حال الإصرار على هذا الزواج الذي قد يكون غير متكافئ أو مناسب، من الممكن أن يلجأ الأبناء إلى «كبار العائلة» في محاولة منهم للتدخل لدى الأب أو الأم قبل إقبال أحدهما على الزواج.

سمير صالح (39 عاماً) هو أحد الأبناء الأربعة عشر الذين أنجبهم والده، والذين أصبح بعضهم أجداداً وجدّات، ولكنهم لم يتمكنوا من ردع أو حتى احتواء والدهم الستيني الذي ترمّل منذ بضع سنوات، وبقي مُصرّاً على الزواج مرة أخرى بدعوى أنه لا يزال يتمتع بالصحة والعافية وبأنه بحاجة إلى سيدة تهتم به وترتّب أموره وسط انشغالات أبنائه وبناته. وبعد طول إلحاح في البحث له عن زوجة مناسبة وعدم تجاوب أبنائه وبناته مع مطالبه، اتجه والد سمير للبحث بنفسه، حيث وضع أبناءه تحت الأمر الواقع وتزوج من سيدة ثلاثينية مطلّقة، وكانت الصدمة الأعنف حملها بتوأم بعد بضعة أشهر من الزواج، وهم يرون بذهول سعادة والدهم الغامرة بذلك، وكأنه يُنجب للمرة الأولى. وبعد ثلاث سنوات على هذا الزواج، وقع الطلاق إثر خلافات معقّدة ومزمنة لعدم التكافؤ واستحالة الوفاق. وتركت لهم زوجة والدهم التوأم ورحلت. أما الضربة القاضية فكانت حين تبيّن لهم أن رغبة والدهم بالزواج لم تنطفئ بعدُ وما زال يبحث عن عروس.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى