إيلي كوهين قبرٌ خالي وقلبٌ باكي ورفاتٌ مفقودٌ
أعادت الأحداث الجارية في سوريا الأمل للعدو الإسرائيلي في قضيةٍ يزيد عمرها عن خمسين عاماً، وقد ظن البعض خطأً أنهم قد نسوها وأهملوها، وأنهم فقد الأمل فيها، ولم يعد عندهم أدنى أمل بإعادة إحيائها وبعث الحياة فيها من جديدٍ، وأنها لم تعد تشغل شعبهم وقادتهم، وأهلهم ومسؤوليهم، ليأسٍ أصابهم، وإحباطٍ حل فيهم، إذ مضى على وقوعها سنواتٌ طويلة، ولم يبق من آثارها شيئ، وقد غاب الشهود عليها، وفقدت الوثائق الدالة عليها، وتمكن الخوف من تسريب معلومات عنها من فرض حالة جهلٍ حقيقية بها، فلم يعد أحدٌ يعرف عنها شئ، كما لم يعد أحدٌ يقوى عن السؤال عنها مخافة الاتهام والمساءلة، فلا يسأل عنها غير العدو أو من وكله بالسؤال، وكلفه بالبحث والاستقصاء وجمع لمعلومات.
تلك هي جثة إيلي كوهين الجاسوس الإسرائيلي الأشهر في ستينيات القرن العشرين، والذي تم اكتشافه بطريق الصدفة في سوريا بعض أن اعتلى أرفع المناصب، وترشح للأعلى منها، وكان على إطلاعٍ بكل أسرار الدولة وأخبارها العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية، بل كان أحد صناع القرار فيها، وكان من موقعه يقدم دورياً لحكومة بلاده “الكيان الصهيوني” كل المعلومات الممكنة بصورةٍ دوريةٍ ومنتظمةٍ، وكان مزوداً بوسائل اتصالٍ حديثةٍ فضلاً عن قدرته على السفر ولقاء من شاء من مندوبي المخابرات الإسرائيلية، إلى أن أكتشف أمره بمساعدةٍ من إحدى السفارات الأجنبية العاملة في دمشق.
أعتقل إيلي كوهين واستجوب على عجل، وجرى معه التحقيق على أعلى مستويات الدولة السورية في تلك المرحلة، وقبيل إعدامه حظي بلقاءٍ قصيرٍ على انفراد مع الرئيس السوري آنئذٍ، ولم يدر أحدٌ ماذا دار في ذلك اللقاء، وما الذي بثه أحدهما للآخر، ولكن اللقاء بينهما لم يؤخر إعدام كوهين، رغم محاولات التدخل الدولية العديدة، ومساعي الوساطة الكبيرة، حيث تم الإعدام ونشرت صوره معلقاً على حبل المشنقة، ثم دفن في مكانٍ سريٍ لا يعرفه أحد حتى اليوم، ولا يتاح لأي مسؤولٍ أياً كان مناقشة موضوعه أو الحديث بشأنه، إذ يعتبر أمره أحد أهم أسرار الدولة السورية الحديثة.
لكن العدو الإسرائيلي قد عودنا أنه لا ينسى قتلاه، ولا يهمل أمواته، ويحرص على استعادة جثث قتلاه وبقايا أشلائهم، ويبذل كل جهدٍ ممكن أن يكون لكل ميتٍ منهم قبراً، يدفنونه فيه ويعرفه أهله وتبكي عليه أمه، ولا يكون فقيدهم وفق شرعهم ميتاً ما لم يكن له قبر وفيه رفاتٌ أو بقايا عظام، ولهذا فإنهم يبحثون في عمق مياه البحر المتوسط قرب المغرب عن بقايا بحارةٍ لهم غرقوا، وفي قناة السويس عن رفات جنودٍ لهم ما زالوا في قعرها، وما زالت جهودهم تتابع في قطاع غزة لمعرفة مصير الجنديين هدار وشاؤول الذين فقدا في عدوانهم على قطاع غزة عام 2014، وفي الوقت نفسه يجرون تبادلاً للأسرى مع قوى المقاومة لاستعادة أسرى، مقابل رفات جنودٍ أو أسرى أحياءً.
فإذا كان هذا شأنه مع جنوده، فكيف سيكون حاله مع جاسوسه الأكبر وعميله الأشهر إيلي كوهين، رغم أنهم لا يفرقون في أمواتهم بين قائدٍ وجندي، وبين زعيمٍ ومواطنٍ، فكلهم عندهم سواء من حيث الأهمية الوطنية والدينية، ولهذا فإنها ومنذ أن أعدم ودفن في مكانٍ سري وحتى اليوم، وهي تسعى لاستعادة جثمانه ونقله من دمشق إلى فلسطين المحتلة، حيث ما زالت أرملته نادية كوهين على قيد الحياة، وقد أكدت أن مساعي حكومة كيانها لم تتوقف يوماً عن محاولة استعادة الجثمان، وأنها كانت دوماً على اتصالٍ دائمٍ مع رؤوساء الموساد الإسرائيلي الذين لا يملون تأكيد وعودهم لها بأنهم سيستعيدون يوماً رفاته، وسيكون له في “أرض الأجداد” قبرٌ، وسيعرف شعب “إسرائيل” قدره ومقامه وما قام به من أجل “شعب ودولة إسرائيل”، وسيكون قبره مزاراً لكل اليهود من جميع أنحاء العالم، ومحل فخر الإسرائيليين واعتزازهم بما قدمه من أجلى، وبعظم تضحيته في سبيلهم، وهو الذي ما زال معروفاً عند صغارهم قبل كبارهم، ولدى طلابهم قبل قادتهم.
لهذا فإن العيون الإسرائيلية تعمل بهمةٍ ونشاطٍ منذ الأيام الأولى للأحداث الدامية في سوريا، فقد أسعدها ضعفها، وأبهجها ما أصابها، ومنحتها الفوضى وحالة الحرب العامة التي عمت البلاد كلها، الفرصة الثمينة لأن تعيث فيها فساداً وخراباً، وأن تحقق فيها ما عجزت عن تحقيقه سابقاً، وأن تعوض ما فاتها، وأن تستدرك ما خسرته فيها وما أصابها منها، دون خوفٍ من مغامرةٍ خاسرة، أو مجازفةٍ غير محسوبة، إذ لم تعد هنالك أخطارٌ تهددها، أو موانع تحول دون عملها، فلا عيون تراقب، ولا سلطات تمنع، ولا قوى ومنظمات تقوى على الردع، أو تستطيع الإحباط والإفشال، إذ خارت أو غارت قوى بعضها وغاب غيرها.
لا يخفي الإسرائيليون اليوم مسعاهم، ولا يترددون في الكشف عن جهودهم، فهم لا يشعرون بالخوف من الفشل، ولا يخشون من عجزهم عن الوصول إلى سوريا والدخول إلى دمشق، مستفيدين من تعدد جنسياتهم ومن اضطراب الحياة في سوريا، ولهذا فإن صحفهم لا تمتنع عن نشر بعض الأخبار المتعلقة بهذه المسألة، في الوقت الذي تبدي زوجته نادية كوهين عن قرب إعادة دفن زوجها بالقرب منها.
ولم تتردد بعض الصحف الإسرائيلية عن الإعلان عن وجود وحدةٍ أمنيةٍ خاصةٍ، تستغل الأوضاع المتردية في سوريا، وتستفيد من لفوضى القائمة، وتعمل من داخل سوريا نفسها، مستفيدةً من غياب الأمن وانشغال السلطات في المعارك الدائرة، وهي في هذا الشأن تنسق جيداً مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ومع مخابرات دول أوروبا الغربية، ولعل جزءاً كبيراً من تنسيقها وتفاهماتها مع روسيا يقوم على فكرة استعادة جثمان كوهين، بعد التعرف على المكان الذي دفن فيه، والتأكد علمياً من أن الرفات يعود له.
العين الإسرائيلية مفتوحةٌ على كل شئٍ في سوريا، لا تغيب ولا تسرح، ولا تغفل ولا تسهو، ولا تغفو ولا تنام، بل يقظةٌ منتبهةٌ، وواعيةٌ مدركةٌ، تتابع وتراقب وتسجل وتصور وتدون، ولا يغيب عنها شيٌ صغيراً كان أو كبيراً، عسكرياً كان أو أمنياً، فهي تراقب كل صغيرةٍ وكبيرة، عن قربٍ وفي الميدان، وإن كان يبدو عليها عدم الاهتمام بالأحداث الجارية والمعارك القائمة، أو أنها لا تشارك فيها عملياً، ولا تساهم فيها مادياً، إلا أنها تحاول الاستفادة منها إلى الحد الأقصى، بما يخدم مصالحها، ويحقق أهدافها، ويضمن بقاءها واستمرار وجودها، وإبعاد الخطر عنها، وإشغال أعدائها بأنفسهم عنها، وإبعاد خطرهم عنها، وتفتيت قوتهم، وتدمير أسلحتهم، وتمزيق صفوفهم وتشتيت جمعهم.