بقلم : دكتور سامي محمود إبراهيم الجبوري
لا نهتم، فالأخبار جيدة وسيئة في نفس الوقت، اذ نبدأ حياتنا محاطين بمن يهتمون بنا، نفتح أعيننا لنجد وجهين مبتسمين لنا باهتمام. يشاهدنا المحيطون بنا ليسرعوا ويمسحوها على رؤوسنا بحنان. وينطلق التصفيق لنا بحرارة عندما يلحظوا أولى خطواتنا نحو الحياة، أو نسقط لنحاول الوقوف من جديد، كما نستقبل باقات الشكر عندما نتمكن اول مرة من كتابة اسمنا. هذا حالنا في سنوات طفولتنا البريئة. لذلك يبقى حلمنا متشبث في الميل للعب بمرح الطفولة…. في العودة ولو في الخيال.
يبذل المحيطون بنا جهدا كبيرا في توفير مستلزمات عيشنا، ويضعوننا في السرير ويحكون لنا القصص قبل النوم( جدتي: بنات نعش، والسماء). وكان كل شيء اسطورة تصاغ على مقاس عقولنا الوردية والاحلام…
بعد ذلك نصبح بالغين لنصطدم بالحقيقة المروعة بأننا نعيش في عالم يغرق في اللامبالاة وعدم الاهتمام بكل ما نفكر أو نفعل. قد نكون في مرحلة المتوسطة او الاعدادية عندما تصدمنا هذه الحقيقة. او ربما نكون في الجامعة او نجلس في البيت عندما يخطر ببالنا كم نحن لا شيء في الصورة الكلية للبشرية وللوجود. لا أحد نمر به في الشارع يعرف أي شيء عنا بل لا يهتم بنا. يتجنبوننا على الأرصفة ويتعاملون معنا كمجرد حواجز تقف على حدود حريتهم. لا أحد سيمسح على رؤوسنا أو يبتسم في وجوهنا. عدنا صغار، لكن هذه المرة أمام انفسنا، امام الأبراج العاجية التي بنتها الحضارة. قد نموت ولن يلاحظ أحد اننا ولدنا حتى، أو اننا كنا نعيش.
تظهر اللوحة التي رسمها “بروغل” مشهد اللحظات الأخيرة في حياة ايكاروس. والعبرة فيها هي أن مصير “ايكاروس” الذي يغرق، ليس محورا رئيسيا في اللوحة رغم أنه عنوانها. عليك أن تدقق كثيرا في اللوحة حتى تلحظ يد “ايكاروس” وهو ينازع الغرق، إلا أن اللوحة تسلط الضوء على الفلاح الذي يحرث الحقل، وعلى راعي الغنم. في الخلفية نرى مدينة وسفنا وميناء. يبدو أنه لا أحد يلحظ حال ايكاروس، الأخبار جيدة وسيئة في نفس الوقت: من ناحية، قد لا يلحظ أحد أننا نوجد، ومن ناحية أخرى، فهم لن يلاحظوا أيضا عندما نسكب الشاي أو عندما ننسى اننا كبرنا ونتصرف كالصغار.
هنا نرى الجانب الإيجابي من حقيقتنا التراجيدية… علينا أن نقبل التحرر الضمني في حقيقة أننا مهملون وسط هذا الزخم الهائل من المشاعر والعواطف والانفعالات.. منسيون وسط اشياء العالم ومشاغل الحياة. ومن ثم، نقبل بشجاعة أكبر على هذه المواقف حيث تكون بعض الأخطاء والسخافة أمرا طبيعيا. قد نفشل، ولكننا نقبل بثقة أن الفشل مقدمة للنجاح، وهو الشيء الذي لن يلاحظه أو يهتم به أحد أيضا.
وداعا لحلم الطفولة واهلا بالحلم الأمريكي وخيالات الليبرالية التي تظهر وبكل سفور أسس عدم المساواة وآثام مجتمع المستوطنات الأوروبية المحتلة، التي قضت على حضارة سكان القارة الأصليين، ودمرت ثقافتهم ولغاتهم وطرق معيشتهم، واختطفت أبناء أفريقيا واخذتهم عبيدا أرقاء مسخرين لزراعة الارض الامريكية او العالم المجنون الذي يحاول وبكل وحشية حصر السلطة بيد القلة اللامنتمين من الأثرياء. بعد ذلك لا ننسى سيناريو المفاهيم الذي شغل الرأي العام والحكومات والمجتمعات والمؤسسات الدولية كنوع من استرتيجية جديدة اسمها الالهاء، وظواهر وسياسات بشعة وبرامج اقتصادية اقطاعية قذرة همها التهالك والمنفعة… برزت في إدارات نكسون وروزفلت وكلينتون وأوباما وصولا الى ترامب، والتي جعلت من أجهزة الاعلام ومؤسسات الدعاية والفن محركات تابعة همها استهداف المواطن المستهلك لتلك النزعات اللاإنسانية، والعمل على خلق مواطن غير واعي لحقوقه وأحقيته في العيش الكريم والامن……. مطابخ ما يسمى بالأمن العالمي وصناعة الإذعان.
فهناك معايير مزدوجة في السياسة العالمية، تدعي ان الحرية للجميع رغم أنها تتحالف مع المنظمات والدول القمعية بما نتج عنه انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
وهذا حصل بفضل بقوة مؤسسات الاعلام التي تخدم إلى حد كبير الكهانة المأجورة للحكومة الأمريكية وشركاتها العابرة للقارات وحدود اخرى لم نسمع بها اصلا.
مسار عالمي مخيف تنتهجه السياسة العالمية المرتبطة بالعنف والارهاب وهدر الكرامة وقتل الحرية. ومع هذه الوحشية التي شهدتها مجتمعاتنا البشرية ما زال الوعي بها غائبا ومغيبا الى يومنا هذا. لهذا نتمنى أن نسهم في توجيه الأنظار إلى حيل السياسة الناعمة وهي تزج الشعوب كالقطيع في ازمات لا تحد واخرها كورونا.
نؤكد أيضا ان الإنسان ليس كائنا غريزيا مطواعا وقابلا للتشكيل كما تريده الدول والاحزاب والحكومات…. هناك طبيعة بشرية أساسية لا تستطيع الدولة والأنظمة التسلطية محوها والقضاء عليها. الحرية والكرامة من خواص هذه الطبيعة البشرية التي يشترك بها كل الناس.
وبلغتي التي منحني اياها الخالق فطريا ارفض الاقامة الجبرية في ظل حجر جائحة النفاق العالمي وكورونا، لكن عقلي يخبرني انها هي ذات الموقف الايديولوجي الذي تعيشه البشرية منذ قرون وهي مقيدة ومكبلة بسلاسل العبودية لتلك المرجعيات السياسية التي تتلون احيانا بالوان دينية واخرى انسانية.
صحيح ان الحرية في أيامها الأولى مرهقة ومليئة بالمصاعب؛ ولكن الحصول على الحرية هو الطريق الوحيد لممارستها وشم رائحة العيش الكريم، فالتحرر من الخوف هو اولى خطوات الاستقلال الحقيقية.
في عصر اللاعقلانية والسفسطائية والغموض والظلام والنسبية المفرطة، يأتي الضمير ليحاسب الانسان على ما فرط امكانيات منحت له دون حدود وشروط.
نعم، زمن كورونا ايقظ جموعا هائلة من سباتها واعتيادها على السلطة التقليدية والاقامة الجبرية خلف اسوار العبودية الفكرية والايدلوجية. إذن، أن لنا ننظر في مشاكل الحرية بشكل تجريدي، وأن نعود باهتمام وانتباه جديان إلى اهمية ان تحيا البشرية. ستكون هذه العودة مناسبة وطبيعية، طالما أخذنا في الاعتبار أن الإنسان لم يولد فقط ليتأمل، بل ليعمل ويغير.
من ناحية اخرى نجد بأن المجتمع المدني ما هو إلا مؤامرة من قبل الأثرياء للحفاظ على ما سرقوه بنفاق معقلن. هذه السفسطائية التي أعطت قيودا جديدة للضعفاء