أن إخناتون وزوجته الجميلة نفرتيتي رفضوا ذلك النسيان على الأقل فى الوقت الحاضر لذلك كان إعادة اكتشاف إخناتون كشخصية تاريخية ليعلن عن نفسه في منتصف ال 19 – أى بعد ما يقارب 33 قرن بعد وفاته بمثابة إكتشاف عظيم – عندما كان علم المصريات في كامل إزهاره … وبسرعة كبيرة ظهرت شخصية وسيرة هذا الملك الشاذ عن تقاليد آبائه وأسلافه ، رافضاً الجمع الإلهى التقليدي لصالح إلهه الشمسي (آتون) ، تاركاً كل الأعراف التقليدية لملوك عصره فى حماية أرض مصر
فإذا ما وضعنا إخناتون في ميزان التاريخ سنجد البعض يرى أن إخناتون مهرطق أضاع الإمبراطورية المصرية القديمة التى كونها تحتمس الثالث وحافظ عليها أمنحتب الثالث بتخاذله وتركه للسياسه بإهدار مصالح أرضه وإمبراطوريته التى ورثها وتوجهه نحو عبادة “آتون” تاركاً تلك الإمبراطورة المترامية الأطراف فريسة للمتربصين ، والبعض يرى إنه ملك حالم وموحد وفيلسوف فريد فى عصره خلد أناشيد غاية فى الروعة والجمال ، وجعل كل تركيزه في المقام الأول للعباده ومن الواضح ومن أول وهلة بعد أكتشافه تم ترويج البعد التوحيدى لعقيدة إخناتون ، وكأن هناك صدى بعيد في أعماق الماضي يكشف عن دين توحيدى ، وتم الترويج لتلك الفكرة في كل مكان منذ مطلع القرن ال 19 و ال 20
ولكن هناك سمات ومواضيع أخرى يجب وضعها فى الإعتبار ، منها: الهيئة الجسمانية الأنثوية الغريبة التى فرضها على تماثيله ، وفرضية التأثيرات الأجنبية على فكره ، أو علاقته الرومانسية الواضحة مع نفرتيتي الجميلة وهو أسلوب غير مألوف في الفن المصرى من قبل ، أو أسباب الخلق من العدم كما فى أناشيده ، بالإضافة إلى الإقامة الملكية الجديدة في العمارنه ، حتى وصفت في نهاية القرن ال 19 حتى الربع الأول من القرن ال 20 بأنها “بومبي” المصرية
بالتأكيد هناك العديد من النصوص والإكتشافات المدهشة التى تؤيد شعبية إخناتون في المخيلة الجماعية لبعض المصريين فى العصر الحديث بسبب تقارب أفكاره مع الأديان الحالية ، حتى أنفجرت فى وجه المصريين بعض الفرضيات والنتائج المتضاربة والتحليلات المسبقة بكل أنواعها كموضوع تكفير إخناتون أو العكس بإعتباره نبى موحد وربطه بفترة يوسف وإخوانه ، وفترة موسى وخروج بنى إسرائيل ، مروراً بمأساة إخناتون كل ذلك على سبيل المثال لا الحصر ، ومنذ تلك اللحظة وصل إخناتون إلى مكانه مرجعيه في الثقافة الغربية والعربية على حد سواء بفضل أناشيده المدوية ، حتى وصف إخناتون بملك التوحيد الآتى من العالم القديم كشخصية أساسية في العالم الفكري الحديث ، في ظاهرة لم أتردد في وصفها بأنها “هلوسة ثقافية”
ومع هذا الإنتشار الغير محدود بوضع فرضيات وأحكام عشوائية ، يكون من الصعب للغاية على الهواه في علم المصريات الوصول إلى فكرة دقيقة عن الحقيقة التاريخية لإخناتون ، لتمييز ما ثبت تاريخياً عن الذي نشأ عن رأي شخصي – حتى الإسقاطات الغير مثبته تاريخياً
من وجهة نظر تاريخية ، فإننا نتوصل إلى حالة متناقضة بشكل بارز: لقد أصبح “إخناتون” المنسى فى الماضي والساقط من الذاكرة الجمعية لدى المصريين الأوائل شخصية بارزة فى الذاكرة الحديثة لدى المصريين الحاليين ، والأقرب إليهم كشخصية تمثيل ثقافي معاصر ، فالقضية فريدة من نوعها إذا ما تم وضعها فى مكانها وإطارها الصحيح ، فبعد تجريد إخناتون من معاصريه ونبذه ووصفه بالمهرطق فى القرون الماضية ، أهتم به القرن الحالى بدرجة كبيرة لدرجة أنه يبدو من الصعب اليوم فهمه على مستوى تاريخي صحيح حتى أعتبر واحد من أنبياء الديانات التوحيدية.!!
في الواقع تكمن صعوبة الاقتراب من عهد أمنحتب الرابع (إخناتون) في قلة الوثائق التي تتعلق به ، أو في المسافة الزمنية من عهده ، ولتدارك هذا التلوث الفكرى والتفسيري الذي تم بناؤه ثقافياً ، يجب التخلى مؤقتاً عن أيدلوجياتنا الحديثة وإعادة التركيز على الطبيعة الحقيقية للوثائق الأثرية التي بين أيدينا حول طبيعة هذا الملك وتطبيقها على حياته وسيرته بالنظر لوقته ، من خلال تاريخه الخاص في مصر القديمة ، ومن خلال الأسباب التى جعلته يظهر بهيئة جسمانية أنثوية غريبة عن الفن التقليدى ، والتأثيرات الأجنبية على فكره ومعتقداته ، والتى أدت في النهاية إلى عداء وصدام مع كهنة آمون أنتهت بمحو ذاكرته من التاريخ
ليس الهدف من ذلك إعادة بناء قصة جميلة وقادرة على إغواء شهيتنا لهذا الملك ، ولكن لوصف الحقائق والأحداث التاريخية كما هي ، ومثل هذا النهج يلزم بالطبع التخلي عن ظاهرة سد الثغرات التاريخية بإضافة فرضيات من مخيلتنا ، وأن نترك التاريخ يسير حسب المسار الذي يتتبعه ، من الشقوق الصغيرة على أطراف الطريق ، إلى الجسور الكبيرة ، حتى فترات الوهن والإضمحلال وصولا لفترات القوة والإزدهار ، لكى يقدم لنا وجهة نظر علمية ، بالإضافة إلى منح الأولوية لطبيعة المصادر المستخدمة بدلاً من التوقعات التى غالباً ما تكون غير واعية ، وإتباع النهج الصحيح الذى يسلط الضوء بوضوح على المعلومات التي لا تزال لدينا حتى الآن عن أخناتون بعد 35 قرن من وفاته للكشف عن الطبيعة الحقيقية له والتى تتلخص في: طبيعة الملك الذي يدير إمبراطوريته بفاعلية ، وسلطته في السيطرة ، والصورة التي أراد أن يعطيها الملك لسلطته ، والقرارات التي يقدمها هو بنفسه من خلال سياسته الصارمة بما يتناسب مع طموحاته …. كل تلك الحقائق الموثقة مادياً في عهده تذكرنا بأن سيادة مصر القديمة كانت بين يدى رجل محنك في مسؤولياته السياسية ، فليس من السهل لملك ضعيف يستطيع أن يكن العداء لكهنة آمون ، ويحكم لمدة تتراوح 17 عاماً فى ظل تلك الظروف والمشاحنات ، ولا يمكن تجاهل خطوته فى تمثيل نفسه بصورة كاريكاتورية للدور العام للزعيم الكاريزمي
كما يمكن تلخيص بعض العناصر على النحو التالي: مواكب الملك وعرباته ، المرافقين المسلحين … الاحترام الخاص من أولئك المخولين إليه بالاقتراب ومنحهم العطايا والهبات فى بعض الجداريات باعتبارهم “أولئك الذين يقتربون من لحم الإله” (كما تقول بعض النصوص) ، ظهوراته بمفرده أو مع عائلته على شرفة القصر ، تدليله لزوجته وبناته ، طريقة العبادة العامة أو شبه العامة من العائلة المالكة .. وغيرها
ولكن من وجهة النظر هذه هناك شيء يميز إخناتون بشكل ملحوظ عن أقرانه وغيره من الملوك في مصر القديمة ، سواءً أتفقنا أو أختلفنا فيها ، فما يميز إخناتون هى جرأته على تحرير نفسه من التقاليد ومخالفة المعايير الثابتة للإيديولوجية القديمة وبدون أي تنازلات قابل ذلك بحزم كبير ، وبقوه في مواجهة القوى التي تتحدى قوته
في النهاية نحن لا نملك إلا أن نسرد التاريخ بكل حيادية لملك يحوم حول سيرته غموض ، فالتاريخ يخفى عنه أكثر مما يعلن.