فى نظر قدماء المصريين لم يكن هناك شئ فى الطبيعة يخلو من الحياة ، فكل ما فى الطبيعة ينبض بالحياة و الحركة الدائمة (الكون كله حى)
تبدأ الأسطورة عندما أراد الإله آتوم تعريفه لنفسه و لذاته داخل الميحط الأزلى نون فكان ذلك أول فعل من أفعال الخلق ، أو بعبارة اخرى هو أول فعل من سلسلة من الأفعال الخلاقة التى أدت الى خروج الكون من داخل المحيط الأزلى أو الهاوية ليحكمه النظام الكونى و أثناء قيامه بتعريف ذاته و تمييزها عن مياه الأزل طرأ على آتوم “تغير/تطور/صيرورة”
فكلمة “آتوم” تعنى كل شئ و فى نفس الوقت تعنى لا شئ ، هو النقطة شديدة التركيز التى انبثق منها كل شئ ، و اليها يعود كل شئ ، هو الجوهر اللامحدود الذى يحوى كل امكانيات الخلق التى لم تتشكل بعد ، لذلك كان أول فعل من أفعال الخلق التى قام بها “آتوم” هو أنه انفصل عن مياه الأزل “نون” و بذلك أحدث تغيير جذري فيها ، فلم تعد كحالتها الأولى حيث لا سطح و لا عمق و لا شكل و لا شئ سوى الفوضى و الظلام ، فأصبح “آتوم” (الواحد/الكل)
لم تعد مياه الأزل ساكنه لأن آتوم أحدث بها تغير حين انفصل عنها و ارتفع منها ، نتيجة تلك الرغبة الأزلية للاله فى أن يخلق من ذاته بدأت أولى مراحل التحول و الصيرورة و التى عبر عنها المصرى القديم برمز الجعران “خبرى” (لاحظ المصرى القديم أن الجعران يمر بتطورات و تحولات و مراحل من النمو و هى البيضة ثم اليرقة ثم العذراء و ذلك قبل أن يتحول إلى كيان مكتمل يمتلك أجنحة)
تلك الصيرورة التى اعترت مياه الأزل و اعترت “آتوم” فى نفس الوقت هى ما يطلق عليه فى مصر القديمة اسم “خبرى” و عبر المصرى القديم عن تحول “خبرى – آتوم” و صيرورته من حال الى حال بطريقتين الطريقة الأولى هى اتخاذه هيئة جعران مقدس ،و الطريقة الثانية هى اتخاذه هيئة تل أزلى ارتفع فوق مياه الأزل جاء وصف الطريقتين فى متون الأهرام فى اثنين من النصوص يقول النص الأول : “تقدس اسمك يا آتوم … تقدس اسمك يا خبرى … يا من خلق ذاته بذاته بأن تحول و صار من حال الى حال. و من ذاته خلق التل الأزلى … ثم تحول الى جعران مقدس يحمل اسم خبرى”
و يقول النص الثانى: “تقدست يا “خبرى – آتوم” … يا من ارتفعت على هيئة تل أزلى … يا من ارتفعت كطائر ال “بنو” فوق حجر ال “بن بن” فى مدينة أون”
لم يعد آتوم الذى يرمز لكل ما هو موجود و هو فى حالة تفكك و سديمية داخل مياه نون ، و انما صار هو آتوم الذى كان مجيئة للوجود هو مجئ الوجود للوجود (آتوم هو القدرة الالهية التى من خلالها أتت الأشياء للوجود)
تزامن حدث تعريف آتوم لذاته مع حدث ولادة الكون أو المجئ للوجود و هو المبدأ الكونى الذى عبر عنه قدماء المصريين باسم “خبرى” و معناه يأتى للوجود و هو من ألقاب آتوم فقد تحول آتوم من الحال السلبى الذى لا يتضمن أى فعل الى حال آخر حيث بدأ فى الاتيان بأفعال و أول فعل قام به آتوم هو أنه أتى للوجود و من هذه اللحظة بدأت سلسلة لا تنتهى من التحول و التطور و الصيرورة (و هى فى مراحلها الأولى فهذا لم يحدث داخل الزمان الذى نعرفه)
رمز المصرى القديم لظهور آتوم بالجعران “خبرى” (الذى أتى للوجود) و الذى عرف فى مصر القديمة بقدرته على خلق حياة جديدة بشكل تلقائى من داخله فهو من أغرب الكائنات و أجدرها بالتأمل ، فقد تأمل قدماء المصريين الجعران فوجدوا فيه رمزا للخلق من الأرض . فالجعران يولد من الأرض و الماء اذ تخرج صغاره من كرة من الروث أو الطين و هو عبارة عن مزيج من التراب و الماء و يدفعها بأرجله الخلفيه و بذلك يحاكى حركة الشمس فى مدارها الفلكى – و هذا يتضح حين نعرف أن اسم الجعران باللغة المصرية القديمة هو “خبرى” و معناه : البعث/التحول/الصيرورة
آتوم هو فى الأصل صورة من صور الاله الخالق ، بينما يعبر خبرى عن مبدأ الخلق الذاتى أو الاله الذى أتى للوجود بذاته لذلك يعبر الجعران “خبرى” عن تجلى آتوم للوجود فى صورة ميلاد النور من قلب الظلمة ، او بشكل خاص لظهور أول خيط نور من قلب الظلمة ، و لذلك فهو يرتبط ب “رع” رب النور الذى يتجلى فى نور الشمس
و كما يرتدى آتوم عباءة “خبرى” و يتخذ هيئته لحظة مجيئه للوجود ، كذلك يرتدى أيضا عباءة “رع” و يظهر فى صورته ، على سبيل المثال يقول أحد نصوص كتاب الخروج الى النهار: “أنا آتوم … روح “رع” المقدسة/الالهية التى انبثقت من “نون” … أتيت للوجود من ذاتى ، و خلقت نفسى بنفسى وسط “نون” ، فكان اسمى خبرى”
فمن الجوهر الواحد ينبثق ثالوث الخلق لذلك كان لآتوم هوية ثلاثية فهو “آتوم – خبرى – رع” ، نحن هنا أمام مفهوم ميتافيزيقى معقد يصف تحول الواحد الى ثلاثة أو الى أربعة صور اذا أضفنا “نون” ، و هو مفهوم يصعب اخضاعه للتحليل المنطقى ، فمن الصعب أن نحلل علاقة كل كيان من هذه الكيانات الالهية مع غيره بشكل عقلانى ، على سبيل المثال العلاقة بين نون و آتوم أو بين خبرى و رع أو بين رع و نون … و هكذا .
فاذا أخضعنا العلاقة بين هذه المفاهيم للتحليل المنطقى فسوف نبتعد عن روح الحضارة المصرية القديمة و عن الطريقة التى كان يفكر بها المصرى القديم بدلا من أن نقترب منها .
لذلك كانت المفاهيم التى يدور حولها علم الفيزياء الكونية فى مصر القديمة هى مفاهيم بعيدة تماما عن الفيزياء المادية التى يدور حولها العلم الحديث بحيث اذا أخضعنا تلك العلوم القديمة للنظام المنطقى الذى نعرفه فسنفقد المعنى و المغزى الذى أراد قدماء المصريين التعبير عنه … و لكى نفهم رموز الحضارة المصرية القديمة و علاقتها المتشابكة علينا أن نتبنى طريقة التفكير بعقل المصرى القديم و التى هى أقرب الى روح الطبيعة بحيث تتدفق الأفكار بمرونة داخل بعضها البعض فى علاقة احتواء بدلا من أن يقف كل منها على حدة فى وجه غيره من الأفكار.