المسمار الأخير في نعش (التسوية)..
في الأشهر الماضية حاولت آلة التطبيع الإعلامي العربية والصهيونية اختراق الوعي الإسلامي والعربي وإزاحة فلسطين باعتبارها هوية دينية وتاريخية وعربية من أولوياتهم واستبدالها بمصطلح (السلام) متعدد التفسيرات في علاقة الأمة المسلمة بعدوها الديني والتاريخي وهو العدو الصهيوني، وبينما اجتهد بعض مفكري هذه الآلة لتشويه صورة المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطيني برمته ومحاولة تجميل الإجرام الصهيوني وتصديره بصفته نموذجاً للتسامح، بل تجاوز الأمر بأن ذهب بعضهم للحصول على مباركة حاخامات اليهود دون أدنى اعتبار لعروبتهم ودينهم وإسلامهم، ووسط هذا المستنقع الخبيث ظهرت شخصية المستوطن اللص من أصول أمريكية (يعقوب فوسي) وهو يحاور فتاة من عائلة الكرد في حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة، وهو يدافع عن سرقة منزلها قائلاً: «لو لم أسرقه أنا، سيأتي مستوطن آخر ويسرقه»، ليفضح كذب سردية التسامح التي يروج لها بعض (اليهود العرب) كما وصفهم المفكر المصري الراحل عبد الوهاب المسيري.
انتهت المعركة الأخيرة في قطاع غزة وتحولت نتائجها لجزء من تراكمات أربعة حروب خاضها الفلسطينيون انطلاقاً من هذا الشريط الساحلي الضيق المحاصر خلال أقل من 15 عاماً، كان فيها الإنسان الفلسطيني أكثر تمسُّكاً بالمقاومة من تمسكه بخطاب السلام الذي تبنته السلطة الفلسطينية لقرابة 30 عاماً، وحتى نحاول استقراء المشاهد على الأرض وتفسيرها بصورة صحيحة دون الانحياز لحساب العواطف علينا استحضار التدخلات الدولية التي تبعت الحرب الأخيرة وبدأت بالتدخل المصري والقطري والأمريكي وليس انتهاء بزيارة المبعوث الأممي الخاص بعملية السلام في الأرضي الفلسطينية، الذي تعرض للطرد من قبل رئيس حركة حماس، يحيى السنوار، ووصف زيارته بـ «السلبية»، وكل تلك الجهود انصبت على أمر وحيد يتعلق بمقايضة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على سلاحها، ووضع ملف المساعدات الإنسانية مقابل ملف الأسرى الصهاينة لدى المقاومة كجزء من الصفقة، وهذا الأمر ليس غريباً على دولة الاحتلال الصهيوني لكن الأغرب أن جميع الوسطاء لم يتجرأ أحدهم على التطرق لمعاناة قرابة 5000 آلاف أسير فلسطيني في سجون الاحتلال ومنهم من يقبع في الأسر منذ أكثر من 4 عقود.
هذا الأمر أكد أن أحد أهم مسببات صمود المقاومة هو توفر حاضنة شعبية كبيرة تؤيدها وذلك يبطل كل مزاعم آلة التطبيع العربية التي دائماً مَّا تتذرع بأن الشعب الفلسطيني يبحث عن (السلام)، والأمر الآخر الذي لم أستنتجه من صمود المقاومة أمام استنزاف آلة الحرب الصهيونية بصورة متواصلة بل من نتائج دراسة نشرها معهد (بيغن – السادات) أشارت إلى أن تواتر الصراعات مع غزة تسبب بتآكل صورة الردع الصهيوني، وفشل دولة الاحتلال في احتواء تطور المقاومة في القطاع، بل أصبحت المقاومة أكثر تأقلماً مع الضغوط التي تمارسها دولة الاحتلال وهي حالة خطيرة تؤكد استطالة واستدامت أمد الصراع وتقليص فرص القضاء على المقاومة.
حاولت دولة الاحتلال الصهيوني بغطاءات مختلفة ومنها مفاوضات التهدئة بعد المواجهة الأخيرة إعادة سيطرت السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة حتى لو كان ذلك من بوابة المساعدات المالية المقررة لإعمار غزة، وركزت وفود التفاوض الصهيونية على أن السلطة هي البديل عن الجانب القطري للتحكم بآلية إدخال الأموال إلى قطاع غزة، لكن هذا الخيار أثبت فشله على المدى الطويل لا سيما بعد رفض الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إجراء الانتخابات الأخيرة، وانقلاب كثيرين من قادة فتح عليه، لا سيما عقب الحرب في غزة وأزمة الشيخ جراح ومؤخراً اغتيال الناشط نزار بنات على يد عدد من عناصر جهازَي المخابرات والأمن الوقائي التابعين للسلطة الفلسطينية وخروج مظاهرات في رام الله تطالب بحل السلطة.
محاولات الجيش الصهيوني في السيطرة على قطاع غزة فشلت بسبب قوة المقاومة، لكن الموقف السياسي الصهيوني يبرر هذا العجز أمام الجمهور بالحديث عن عدم قدرة الحكومة الصهيونية على تحمل مسؤولية مليوني نسمة هم سكان القطاع وتحمل احتياجاتهم اليومية، ورغم الفشل المتواصل بالنسبة للحلول العسكرية إلا أن فشل المفاوضات التي تقودها مصر ومحاولة استثمارها في الضغط على المقاومة يجعل الجيش الصهيوني يتحدث بصورة مستمرة عن إمكانية تفجر المواجهة مجدداً مع قطاع غزة، وهذا الأمر قد يفسره حديث السنوار عن نفاذ صبره من فشل المفاوضات. وعلى عكس المؤسسة الأمنية الصهيونية التي تركز على الاحتواء الأمني والعسكري للمقاومة في قطاع غزة؛ تحاول فصائل المقاومة ومن بينها حماس إعطاء أولوية للأهداف السياسية والأيديولوجية طويلة المدى في المواجهة السياسية والعسكرية مع الاحتلال، فحينما قررت خوض معركة (سيف القدس)، كانت تسعى لهدفين أولهما إدراج ملف القدس كجزء من أي مفاوضات مع الاحتلال في غزة، وإضعاف دور السلطة في التأثير بهذا الملف على المستوى الشعبي والسياسي، والانتهاء إلى غاية إسقاط السلطة الفلسطينية كمؤسسة أمنية مسؤولة عن التنسيق الأمني مع الاحتلال في الضفة الغربية واستبدالها بكتلة بشرية تحتضن المقاومة.
ما يمكن استنتاجه من المواجهة الأخيرة حول تأثيراتها السياسية هو أن الثمن الذي تدفعه دولة الاحتلال الصهيوني يتعاظم من ثلاث نواحٍ: أولها ميزان الردع الذي أصابه خلل كبير جعل المقاومة أكثر جرأة في تحديد أهدافها. والأمر الآخر التكلفة المادية الباهظة لأي مواجهة، والتكلفة السياسية التي أصبحت على مستوى العلاقات الخارجية أكثر كلفة للاحتلال، لذلك أصبح هناك قناعة أمنية صهيونية واضحة تؤكد أن حسم المعركة مع غزة أصبح صعباً للغاية بل إن طموحات المؤسسة الأمنية الصهيونية أضحت تركز فقط على عدم انتقال التجربة في قطاع غزة إلى الضفة المحتلة.
تقول التقديرات الصهيونية إنه عقب حرب عام 2014م دخل إلى قطاع غزة أسمنت وحديد يكفي لبناء 20 ناطحة سحاب مثل برج خليفة في دبي، لكن الأمـر انتهى بها لبناء (مترو غزة) وهي إشارة صهيونية لأنفاق المقاومة في قطاع غزة، ورغم عدم اليقين بصحة الرواية الصهيونية حول هذا الأمر إلا أنه يؤكد أن هناك إصراراً فلسطينياً على الاستثمار في البنية التحتية للمقاومة وهو ما أشرنا إليه سابقاً بالتأكيد على وجود اصطفاف شعبي فلسطيني خلف المقاومة وتوفير حاضنة شعبية لحمايتها ومساعدتها في تحقيق أهدافها.
تتزامن هذه الأيام مع مرور الذكرى 54 لقرار الكنيست الصهيوني بضم شرق القدس إلى الدولة الصهيونية، عقب عدوان عام 1967م، ورغم مرارة هذا التاريخ إلا أن أزمة الشيخ جراح واستهداف القدس في المواجهة الأخيرة بمجموعة صواريخ ومحاولة المستوطنين تنظيم مسيرة الأعلام مؤخراً بحماية مكثفة من الشرطة الصهيونية ووجود مظاهرات ضخمة من الفلسطينيين في القدس المحتلة للتصدي لها، يؤكد أن الاحتلال الصهيوني إلى يومنا هذا لم ينجح في حسم معركة القدس المحتلة؛ فالصراع الديموغرافي لا يزال على أشده وإن أصاب العرب والمسلمين انتكاسة سياسية أمام الابتزاز والغطرسة الصهيونية، وعلى غرار صمود الشيخ جراح في بلدة بيتا جنوب نابلس حاول قطعان المستوطنين احتلال جبل صبيح بحماية جيش الاحتلال الصهيوني لإنشاء مستوطنة جديدة، فبدأ ما يعرف بـ (الإرباك الليلي) لأهالي قرية بيتا، إذ أصبح هذا التجمع للمستوطنين يحاط يومياً بمئات من الشبان الفلسطينيين المتحصنين بمئات من إطارات السيارات المحترقة لإجبار قطعان المستوطنين على مغادرة الجبل.
هناك مساحة سياسية جديدة للعمل السياسي الفلسطيني عقب ترديد شعارات تطالب بإسقاط السلطة الفلسطينية في رام الله، فهي حالة لم يكن يتوقعها صانع القرار في واشنطن وبروكسيل وبعض المتعاونين معهم في العالم العربي، فإسقاط السلطة وتقويض شرعيتها الشعبية يعني إسقاط (أوسلو) الذي يعوَّل عليه في لجم أي مقاومة للشعب الفلسطيني وتحويل الضفة المحتلة على غرار غزة، إلى شعلة مقاومة تنتفض في وجه الكيان الصهيوني، وهذا الأمر يضع كلَّ من استثمر فيما عُرِف بـ «تسوية الصراع العربي الإسرائيلي» أمام مخاطر كبيرة تتعلق بإعادة تنصيب ممثلين جدد عن الشعب الفلسطيني هم بالتأكيد لن يتم استنساخهم من تجربة (أوسلو).
فقد قدمت هذه التجربة خدماتٍ كبيرةً لدولة الاحتلال أولها اعترافها بثلاثة أرباع فلسطين، باعتبارها (إسرائيل) مقابل وعد بقيام دولة فلسطينية، لكن هذه الدولة لم تقم، بل إن سلطة أوسلو تولَّت كل مهام الاحتلال: من إدارة الكتل الفلسطينية أمنياً، وتطهير الضفة الغربية من كل مقاوم، وتولت مصالح سياسية واقتصادية وأمنية نيابة عن الكيان الصهيوني… لذلك مجريات الأحداث كلها تشير إلى واقع سياسي فلسطيني جديد؛ أبرزه عدم قدرة النظام الدولي على ضخ دماء جديدة لإحياء السلطة الفلسطينية مع فقدانها شرعيتها الشعبية، وصعود اليمين الصهيوني المتطرف، واستمرار المقاومة في قطاع غزة على التأقلم مع الأزمات بعد كل مواجهة وعدم وضع مسار مفاوضات يمكن أن ينتهي بأفق سياسي مع دولة الاحتلال والاكتفاء بتهدئة أمنية مقابل مكتسبات اقتصادية. ومن العوامل التي تشير إلى وجود متغيرات: تأجيج الصراع الديموغرافي في كل فلسطين التاريخية، وهيجان حالة المقاومة في ضفة، وظهور مناطق اشتعال دائمة في القدس ونابلس، مع ارتفاع موجة معارضة شديدة ضد السلطة الفلسطينية بسبب ملفات فساد كان آخرها شراء لقاحات منتهية الصلاحية من وزارة الصحة الصهيونية، وكذلك ملف التنسيق الأمني وقضية مقتل الناشط نزار بنات التي قد تكون المسمار الأخير في نعش السلطة.