منوعات

تقويض المقولات المركزية في نص ” في المنفى”

للشاعر: حسن عبد الامير بقلم:د. أمل الغزالي

في المنفى
تهاجسني اللحظات
التي ادركت فيها
انني منفي مني عني وعن المدن الحبيبة
و ها انا ذا اقف و الحزن جلادي
ارسم على الورق الغريب خرائط و شوارع
علي اتذكر طريق العودة الى جلدتي
و “المنطار” و “الطوش”
و الانهار التي كنا نعبرها على ظهور النخيل العراقية صغارًا
اما سباحة على ظهور امهاتنا
او على ظهر جذع نخلة تصالح جرفي النهر
نغبط الماضي ومافيه من الاسماك و الريف
و زفرة الشباك
نبوءة الخير الوحيدة آنذاك
كنا نمشي خلسة خطوة بخطوة
الان…
نركض و الزمن يركض قبالنا و نحن حفاة
آه آه…..
سياط الايام لا تزال
تجلدني
و الجوى يشتد
و انزف ذكريات لن تعود
ذات هجرٍ على سكة قطار الشوق ركلته قلبي
في شباك الصبر قربانًا لوجه الربِ
و العمر كان بلا مكابح
يمضي قرابة الستين لوعة ؛
كي لا انسى مدن النخيل
مدن فيها بساتين اجدادي السومريون
التي لا يزال عطر اناثها النخل
شامخات رغم انف التأريخ
قداسة بلاد و تراثًا و حضارة
النخل الذي كلما “دليته” يفرح “الحجي” كثيرًا
كلهن عمات مكرمات
حتى بعد الحربِ!
حتى بعد قطع الرؤوس بالصواريخ
احن لطبيعة تذيق قلبي شوقًا
في منفى عديم التأريخ
كبلاد غير بلادي
قلبي لا يزال متعلقًا بجذع برحية ما
هي ليست إمرأة!
حُذرتُ من صعودها مرارًا قبل مواسم القصاص
و عاندت الطبيعة ولم أكترث لغضب الاجداد
بمساس سعفة ما
الاجداد الذين لا يعصيهم صبي في زمانهم ولا تمس بساتينهم او تتحول الى بيوت كما هي الان!
تسلقت عبر خصر الزمن
مدينة مدينة!
حتى وطأت قدماي في بصرتنا
و تذوقت من حبها
و شِعرها ما لذ و طاب .
امتاز الشاعر العراقي حسن عبد الأمير بنتاجاته الثرة للقصيدة النثرية البعض منها تغنى بالوطن والحرب والموت والذكريات والحزن والرحيل والاغتراب والغربة ( مانزال ، تشابيه صغيرة، يوڤا، الى عزرائيل ، رحلة الشجر ، الموت لص جائع ، القرنة ، ليتنا ، نصف غواية ، عراقيون ، وجع يتبع وجع ، شاعر من الماضي ، غسل خد الأرض ، وطني وانا ، ذاكرة خشبية ، حروف تناديك قبل الرحيل ، ونصوص نثرية اخرى)
تجاوز الشاعر بنص قصيدته النثرية ” في المنفى ” انفرادية الخلق ليكون نصه نتاجا لزمان ومكان وظروف متشابكة تأرجحت بين الغربة واقعا وألفة الذكريات ، فتسيد الزمن الماضي بتاريخية جديدة تقوض مقولة الاعتداد بالتأريخ وثباته.
( في منفى عديم التأريخ)
نفت ثبات التأريخ بل حتى وجوده وعدم قبوليته للتغيير بمشاكسة الشاعر لقوانين الاجداد التعسفية ومنع العاشق من ملامسة معشوقته التي تماهت الى نخلة شماء تمكن الشاعر من ملامستها والغرق في جذوعها المنخلية الرقيقة كتقويض لمقولات الاعراف والتقاليد السائدة.
(و عاندت الطبيعة ولم أكترث لغضب الاجداد
بمساس سعفة ما
الاجداد الذين لا يعصيهم صبي في زمانهم ولا تمس بساتينهم او تتحول الى بيوت كما هي الان!
تسلقت عبر خصر الزمن
مدينة مدينة!
حتى وطأت قدماي في بصرتنا
و تذوقت من حبها
و شِعرها ما لذ و طاب .)
هنا يكمن كسر حواجز التأريخ وضرب سيادته ومعتقداته وسلوكياته التي لا تصلح لزمان يعيشه الشاعر فكانت بداية بنية النص الاسطورية متمثلة من نهايته كأجتياح لكل ما منعه التأريخ المزيف.
كان الزمان حاضرا بمقاربة بين السير المتباطىء بخطوة تجر اذيال الاخرى تتمعن بحصى الطريق التي تحتضن جوف الارض ثباتا وبين الزمن الآني الذي يتطاير كما الريش في رياح الايام العاتية يتسابق فنراه قبالة اعيننا لصا يسرق منا كل شيء فنصبح عراة حفاة الاقدام .
( كنا نمشي خلسة خطوة بخطوة
نركض و الزمن يركض قبالنا و نحن حفاة)
مر الزمن بسرعة فائقة ساحبا العمر معه دون ان يتلذذ الانسان بطعم الحياة وكأنه خلق لعيش مبلل بالوجع يكسر اسنان الضحكات ويشوه صورة الايام بمرايا مهشمة الاطراف مقوضا مقولة الزمن ومركزيته السائدة في مستويات ثابتة غير قابلة للمزج.
( والعمر كان بلا مكابح
يمضي قرابة الستين لوعة )
كان لزمن القصاص رمزا اجتماعيا سيكولوجيا بايولوجيا لنضج فتيات الحي وقبل هذا الزمن ( زمن القصاص ) تكون الفتاة بأوج المشاعر وبلا لجام هي محرمة اجتماعيا بكل ماتحمله القوانين العرفية من موانع على حبيبها فكان الشاعر قانصا جيدا لهذا الزمن المدجج بكسر القوانين والتمرد على الاعراف والتقاليد بل وحتى المعتقدات بتأريخانيته الجديدة وسيكولوجيا يمتاز هذا الزمن بالتقلب والميول الغريبة عن واقعية المجتمع لذا نراه تمكن من تسلق جذعها ولامس سعفاتها وهام في خصرها ، فهذا النضج البايولوجي كان محفزا قويا لتغيير وتجاوز الكثير مما خلفه التأريخ ودونه على رقم مجتمعية لسنين مضت ، فدعس الشاعر بكلتي قدميه على اطراس بالية معلنا عن ولادة جديدة لزمن جديد .
(حُذرتُ من صعودها مرارًا قبل مواسم القصاص
و عاندت الطبيعة ولم أكترث لغضب الاجداد
بمساس سعفة ما)
مقوضا بذلك مقولات الأرث الثقافي القديم وسيادته الفكرية التي طالت سلوكيات الفرد داخل بنية المجتمع.
( الاجداد الذين لا يعصيهم صبي في زمانهم ولا تمس بساتينهم او تتحول الى بيوت كما هي الان!
تسلقت عبر خصر الزمن)
امتازت بنية النص بتقاطبات زمنية تنافرت تارة وتجاذرت تارة اخرى بين المكان المفتوح لحلمه بطبيعة بساتين الاجداد المحملة بعطر النخيل الانثوي الذي خلد عبر السنين .
( مدن فيها بساتين اجدادي السومريون )
وبين المكان المقاطب للمفتوح ( المغلق ) اذ صور الشاعر دواخله كمنفى له عن مدنه وعن ذاته ليقف في مكان يحيط به الحزن بل يغلفه .
( انني منفي مني عني وعن المدن الحبيبة
و ها انا ذا اقف و الحزن جلادي)
وحينا آخر يمزج الشاعر الامكنة بتقاطباتها المفتوحة والمغلقة بتناسق وانسجام وتوليف جامع بين المختلف وبصيغة جمالية رائعة ليكون الورق مكانا مفتوحا لشوارع مكشوفة واسعة الافق مكانا موحشا غريبا ليتذكر طريقا مغلقا بلا افق الا وهو طريق العودة الى ابناء جلدته هو ذاك المكان الخيالي البعيد الأليف المؤدي الى ابناء وطنه .
( ارسم على الورق الغريب خرائط و شوارع
علي اتذكر طريق العودة الى جلدتي )
فكان الدمج بالامكنة يتراوح بين المغلق والمفتوح ، بين التحضر والبداوة.
( مدن فيها بساتين اجدادي السومريون )
بين الألفة والوحشة ، بين المكان الاعلى
(حتى بعد قطع الرؤوس بالصواريخ
احن لطبيعة تذيق قلبي شوقًا)
والمكان الاسفل الذي تمثل باعلى رؤوس النخيل والارض التي تسند جذع النخلة من طرفي النهر.
(او على ظهر جذع نخلة تصالح جرفي النهر )
وغيرها من التقاطبات التي ابدع في بنيتها الشاعر.
كما اكد الشاعر بتاريخانيته الجديدة على الظروف التي غيرت الكثير وجددت الاحداث وكانت لظروف الحرب سيادتها على النص اذ ان الحرب كانت سببا رئسيا لتغرب الشاعر عن وطنه وابناء جلدته ومعاناته وحزنه ولوعته ، كانت سببا في حرمانه من حنان الامهات ووصف ذلك بصورة لا متناهية في الكبر اذ مثل ظهر الام بالجذع الذي يحمل المسافرين من جرف الى اخر بنقل حقائبهم ولوعاتهم ومشاعرهم مقوضا بذلك مقولة الانتصار في الحروب التي سادت معلنا ان الحروب جميعها خسارات .
( و الانهار التي كنا نعبرها على ظهور النخيل العراقية صغارًا
اما سباحة على ظهور امهاتنا)
الحرب التي حطمت زجاج القلوب بحجارة الموت والدمار فركلت القلب في حفرة الصبر المرير التي لايدخلها سوى بصيص نور من شباكه المتناهي في الصغر بانتظار فرج الله الكبير.
( ذات هجرٍ على سكة قطار الشوق ركلته قلبي
في شباك الصبر قربانًا لوجه الربِ)
فكانت نهاية الحرب نبوءة تضحك على اذقان الشاعر في زمن ولت فيه النبوءات .
(نغبط الماضي ومافيه من الاسماك و الريف
و زفرة الشباك
نبوءة الخير الوحيدة آنذاك ).
وفق الشاعر في بناء نصه الأدبي في ضرب المقولات المركزية التي سادت المجتمع ، ليكون الزمان بما يحمله من تجديد في امكنة متقاطبة متوالفة ابدع في بنيتها المنسجمة والمتضادة تحت ظروف قاسية تراوحت بين الغربة والاغتراب عن الذات بسبب جرائم الحرب التي طالت كل المخلوقات في بلده وما تلتها من كوارث بلغة فصيحة ذات مفردات متفردة في وظيفتها طعمها الشاعر ببعض المفردات العامية ليجعل من تلك المفردات فجوات تغرق المتلقي بالحنين الى الوطن والاهل لرد فعل عكسي لما يعانيه في غربته وكانت توظيفات موفقة في سلب الحنين من جوف المتلقي بقشعريرة ظاهرة شاء ذالك ام ابى ليفرض الشاعر سلطته على مشاعر المتلقي وخلجاته، حتى مكنه من فهم نصه الادبي ضمن سياقه التاريخي ممزوجا بتأريخ ثقافي منفتحا على تأريخ الافكار ، اذ كان الشاعر حياديا تجاه الاحداث والظروف دامجا لثقافات الغربة المتجاوزة لثقافته وتقاليده واعرافه متفهما للتجديد والدمج وتوليف الثقافات برفضه للتخويف وقوانين اكل الزمن عليها وشرب طامحا لتطور تأريخي وثقافي بمقاربات تأريخانية جديدة من خلال انساق ثقافية مضمرة.
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى