رغم أن نتنياهو قد استخف به وأهانه، وأعرض عنه وأهمله، ولم يهتم به وتجاوزه، فلم يفاوضه ولم يشاوره، ولم يطلعه على نتائج مفاوضاته ولا على شكل حكومته، بل سيقصيه عن وزارة الحرب وسيطرده منها، ولن يبقيه فيها إذ يعتقد أنه لا يستحقها، كما لم يعرض عليه غيرها، وإن كان سيعرض عليه غيرها إرضاءً لحزبه، فإنه سيعرض عليه الفتات وبقايا الوزارات، التي عافها غانتس ولم يتمسك بها الليكود، ولن يكون لها دورٌ في اتخاذ القرارات الأمنية والعسكرية الهامة، أو تمثيل في مجلس الوزراء المصغر، فقد انتهى دوره وشطبت وظيفته، ولم يعد نتنياهو في حاجةٍ إليه بعد أن استخدمه لصالحه، واستعمله لمآربه، وسيره كما يريد، إذ استعان به عصا لا أكثر، مرةً يتكئ عليها، ومرة يهش بها خصومه، وأحياناً يلوح بها ويهدد، وأما الآن فقد جاء وقت محاسبته على تطاوله القديم وإساءاته الأولى.
إلا أن نفتالي بينت الذي يدرك كل ما سبق، ويشعر بحجم الإهانات التي يتلقاها، ويعرف أنه استخدم جسراً للعبور وخشبةً للخلاص، فقد صَعَّرَ خده وتجرع الإهانات وقبل باللطمات، وصادق قبل رحيله من مكتبه في الكرياه، وتسليمه إلى خلفه الجديد زعيم أزرق أبيض الجنرال بيني غانتس، الذي سيصبح وفق اتفاق التحالف المبرم بينه وبين نتنياهو، وزيراً للحرب مدة سنة ونصف، قبل أن يصبح رئيساً للحكومة في السنة والنصف التالية، على مجموعةٍ من القرارات المجحفة في حق الفلسطينيين، التي خططت لها أحزاب اليمين المتدينة بالاتفاق مع نتنياهو الذي تأخر في تنفيذها، علَّهُ يحسن صورته، ويزيد في رصيده لدى المستوطنين وقطاع اليمينيين المتدينين، ويجبر نتنياهو على التفاوض معه من جديد، أو الاحتفاظ به كحليفٍ رئيسٍ، وعدم التفريط به لانعدام فائدته وانتهاء مهمته.
صادق نفتالي بينت بصفته وزيراً للأمن، على قرار مصادرة أكثر من ألف دونم من الأراضي الزراعية جنوبي مدينة بيت لحم، لصالح بناء حيٍ استيطاني صهيوني جديد بسعة سبعة آلاف وحدة استيطانية، وذلك قرب مستوطنة إفرات الواقعة داخل تجمع غوش عتصيون الاستيطاني، لتشكل مع المستوطنات القريبة تجمعاً استيطانياً كبيراً، يسهل ضمه إلى “أرض إسرائيل”، ويصعب التنازل عنه وتفكيكه في أي مفاوضاتٍ قادمة، وفي نيته توسيع المستوطنات وتسمينها، وزيادة عددها وربطها ببعضها، لتصبح بمجموعها كتلة استيطانية واحدة متماسكة، تربطها شبكة مواصلات واحدة، طرق سريعة وشبكة سكة حديد، وخدمات كهرباء ومجاري وهاتف موحدة، الأمر الذي يجعل منها كتلة واحدة غير قابلة للقسمة أو التجزئة.
وكان قد سمح للجيش بهدم المباني والمساكن الفلسطينية في المنطقة “C”، بحجة مخالفتها للقوانين الإسرائيلية، بينما سكت عن المخالفات الإسرائيلية وهي كثيرة، بل أجاز للسكان الإسرائيليين تسجيل ممتلكاتهم “المغتصبة” في وزارة العدل، بدلاً من توثيقها في الإدارة المدنية، بحجة أنه يريد رفع التمييز بين مواطني “دولة إسرائيل”، الذين يخضعون جميعاً لقانون واحد، قانون الدولة اليهودية.
ولكن حقيقة الأمر أن نفتالي بينت يريد أن يستولي على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية، تمهيداً لقرارات الضم المتوقعة في المرحلة القادمة، حيث يعتبر والأحزاب الدينية أن الضفة الغربية “يهودا والسامرة” هي أرض “إسرائيل” التاريخية، وأنه لا يجوز التفريط فيها والتنازل عنها، وأي اتفاقٍ مع الفلسطينيين حولها هو تفريطٌ في الحقوق التاريخية للشعب اليهودي ولأبناء “إسرائيل” جميعاً.
كما أن عيون نفتالي بينت كانت ولا زالت مفتوحة على مدينة الخليل، التي يعتبرها أساس الممالك اليهودية الأولى، ومدينة “أبراهام” الذي اشتراها بأربعين شاقلاً، فأطلق العنان للسلطات العسكرية بمصادرة عشرات المنازل والمحال التجارية، وإغلاق الشوارع والطرقات لصالح المستوطنات، دون الرجوع إلى بلدية الخليل، أو إعلامها بالمخططات الجديدة.
وفي الوقت نفسه صادق على إجراءات بناء مصعدٍ ضخمٍ في الحرم الإبراهيمي، وشق طريقٍ طويلٍ من قلب المدينة إلى الحرم، لتقديم الخدمة والمساعدة للزوار اليهود المعاقين والمرضى وكبار السن، مع ما يستتبع هذا القرار من عمليات مصادرة واسعة لأراضٍ وعقاراتٍ فلسطينية.
وأصدر أمراً إدارياً بجعل الحرم الإبراهيمي تحت الوصاية والسيادة الإسرائيلية، رغم أنه يقع في قلب مدينة الخليل، وذلك بالتزامن مع إجراءات أخرى كثيرة فرضها أو استكملها بهدف السيطرة كلياً على الحرم، وتحديد أماكن بسيطة وساعاتٍ محددة للمصلين المسلمين والزوار الفلسطينيين، بعد أن حصر أوقات الأذان والصلاة، ومنع عقدها في أوقاتٍ معينة بحجة عدم إزعاج المستوطنين.
وقبل ذلك أصدر أمراً بعدم تسليم جثامين الشهداء الفلسطينيين لذويهم، والاحتفاظ بهم داخل الكيان تمهيداً لمبادلتهم بجثامين جنودهم المحتجزين في غزة، وخلال مفاوضات تبادل الأسرى الجارية بين حركة حماس والحكومة الإسرائيلية بصورةٍ غير مباشرة، أعلن رفضه الإفراج عن كبار الأسرى، وعن المتورطين في عمليات قتل مستوطنين إسرائيليين، وأصر على الإبقاء عليهم في السجون وزنازين العزل، والمباشرة في تشريع قانون جديد يتيح إعدام كل من تورط في عملياتٍ أمنيةٍ أدت إلى مقتل مستوطنين إسرائيليين، أو أجانب مقيمين في “إسرائيل”.
ما زال نفتالي بينت المتطلع إلى البقاء في الحكومة، يتطرف أكثر فأكثر، شأنه شأن كل الإسرائيليين، إذ لا فرق بينهم سوى في الشكل أو الأسلوب، بينما يشتركون جميعاً في الجوهر والهدف، وفي الغاية والمآل، ولكن تطرفه وغيره يزداد لعلمه أن التطرف هو بوابة الفوز في الانتخابات، وسبيل الوصول إلى الحكومة، وبوابة تحقيق الامتيازات للأحزاب الدينية، ولعله بمواقفه المتطرفة الواضحة وسياسته العنصرية الصارخة، خير من يعبر عن حقيقة الإسرائيليين، ليعلم كل مراهنٍ عليهم أنه يراهن على سراب ويأمل في غراب.