تشهد السينما المصرية مؤخراً لحظات من التعافي بعد أعوام من الركود الشديد على المستوى الفني، اليوم وبجانب السينما التجارية التي عادت لتحقيق إيرادات كبيرة تابعنا بعضها في موسم الصيف الأخير، نشاهد أيضاً تجارب ناجحة عالمياً على المستوى النقدي والفني. قد تبدو هذه التجارب فردية ولا يجمعها اتجاه سينمائي أو فكري واحد، لكنها في النهاية تعطى أملاً لمحبي السينما العربية عموماً والمصرية خصوصاً أن القادم ربما سيكون أفضل.
«يوم الدين» هو الفيلم المصري الذي يتردد اسمه بقوة في الفترة الأخيرة، فبعد العرض الناجح للفيلم في مهرجان كان السينمائي في بداية 2018، اختارت مصر الفيلم ليمثلها في تصفيات جائزة الأوسكار في فئة أفضل فيلم غير ناطق بالإنكليزية.
شهد يوم الجمعة 21 سبتمبر عرض فيلم «يوم الدين» الأول في الشرق الأوسط، وذلك ضمن فعاليات المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة في دورته الثانية، كما شهد يوم الأربعاء 24 سبتمبر بداية عرض الفيلم في دور العرض في مختلف أنحاء مصر. كما ننتظر في الفترة القادمة عروضه العربية والعالمية.
الفيلم هو العمل الأول للمخرج والكاتب أبوبكر شوقي، ورغم هذا فقد حصد كل هذا الاهتمام، في التقرير التالي نحلل معكم أسباب النجاح الكبير الذي يلاقيه «يوم الدين».
قصة مستعمرة الجذام
تدور أحداث الفيلم عن رجل مصري عمره 40 عاماً يسمى بشاي، وهو مُتعافى من مرض الجذام، ورغم ذلك فقد ترك المرض على وجهه وأطرافه آثاراً وندوباً لا شفاء منها.
يعيش بشاي كغيره من المتعافين بالجذام في مكان يسمى «مستعمرة الجذام»، وهو مكان حقيقي متواجد في أحد ضواحي القاهرة يتم علاج المصابين بالجذام فيه منذ سنين طويلة، ويحيا فيه المتعافون وأسرهم ويعملون في حرف مختلفة داخل حدود المستعمرة.
يقرر بشاي أن يترك المستعمرة أخيراً، وأن يذهب في رحلة للبحث عن أسرته التي تعيش في صعيد مصر. يرافق بشاي في الرحلة طفل صغير من سكان المستعمرة يسمى «أوباما»، بالإضافة لحمار يسمونه «حربي»، حيث يبدأ بشاي رحلته على عربة يجرها هذا الحمار.
قد تكون القصة ليست حقيقية بشكل مكتمل، فالسيناريو والحوار من تأليف أبوبكر شوقي، لكنها مستوحاة من أحداث حقيقية شاهدها أبوبكر بنفسه أثناء صنعه لفيلمه الوثائقي «المستعمرة» في عام 2009، والذي جمع من خلاله شهادات عديدة عن مرضى بالجذام تركهم أهلهم وهم صغار على أبواب المستعمرة ولم يقابلوهم مرة أخرى طوال حياتهم.
أبطال حقيقيون
نقطة أخرى مهمة في عوامل تميز الفيلم هو استعانته بأبطال حقيقيين، حيث يقوم بأدوار مرضى الجذام والمتعافين منه أشخاص حقيقيون من سكان مستعمرة الجذام، أبرزهم «راضى جمال» في دور بشاي.
راضي هو أحد سكان مستعمرة الجذام منذ أن كان طفلاً، لم يقف أمام كاميرا قبل بطولته لهذا الفيلم، كما أنه لا يجيد القراءة والكتابة. كل هذا أدى لواقعية شديدة في أدائه لدوره داخل الفيلم، كما حمل المخرج أبوبكر شوقي مسؤولية كبيرة في تدريب راضي لمدة تجاوزت الشهرين قبل بدأ تصوير الفيلم.
شارك أيضاً في البطولة الطفل أحمد عبدالحافظ في دور أوباما، وهو بذلك يصنع ظهوره الأول على شاشة السينما. ويحكي صُناع الفيلم عن كواليس اختيار أحمد فنعرف أنه طفل شغوف بالسينما كان عادة ما يذهب لمشاهدة كواليس التصوير في بعض الأفلام، وهكذا تعرف عليه مخرج الفيلم أبوبكر شوقي ومنتجته دينا إمام وهكذا وقع اختيارهم عليه لأداء دور أوباما.
الاحتفاء في كان.. الواقعية الجديدة في ثوب مصري
حصد «يوم الدين» اهتماماً كبيراً في مهرجان كان السينمائي، خاصة أنه العمل الأول لمخرجه أبوبكر شوقي، ورغم ذلك فقد تم عرضه في فعاليات المسابقة الرسمية، وهو شرف لم يحظَ به سوى معدودين في تاريخ مهرجان كان.
استمر التصفيق لما يقرب من 15 دقيقية عقب عرض الفيلم، كما حصد الفيلم على هامش المهرجان على جائزة فرانسوا تشالييه.
ويعتبر الكثيرون مهرجان كان بمثابة المهرجان الأهم على المستوى الفني والنقدي في العالم، لذا يمكننا اعتبار أن أحد أبرز أسباب احتفاء المهرجان بالفيلم هو تفرده بالانتماء لمدرسة الواقعية الجديدة السينمائية ولكن في ثوب مصري.
«الواقعية الجديدة» هو اتجاه سينمائي اشتهرت به أفلام مجموعة من المخرجين الإيطاليين عقب الحرب العالمية الثانية، خرج الطليان ليصنعوا أفلامهم في الشوارع بعد أن تدمرت الاستديوهات التي بناها الديكتاتور الفاشي موسوليني.
تميز اتجاه الواقعية الجديدة ببعض خصائص أهمها التصوير في أماكن حقيقية، الاعتماد على ممثلين هواة وأشخاص حقيقيين بدلاً من الممثلين المحترفين والنجوم، وقبل كل هذا اهتمام الأفلام بالتعبير عن هموم البشر الذين يعانون.
بتطبيق ما سبق على يوم الدين، نجد أنه التزم بكافة هذه الخصائص، فأحداث الفيلم تم تصويرها بالكامل في مواقع تصوير حقيقية، بدءاً بمستعمرة الجذام بضاحية أبوزعبل في القاهرة الكبرى، مروراً بمنطقة الأهرام، وشوارع وطرق مصر من القاهرة إلى الصعيد. الفيلم أيضاً من بطولة أشخاص حقيقيين وممثلين هواة، بالإضافة لعدد محدود من الممثلين المحترفين.
الترشيح للأوسكار: عالمية القضية الإنسانية
تدور قضية الفيلم بشكل واضح حول عدم التمييز ضد البشر بسبب مظاهرهم، ويتخذ الفيلم من رجل متعافى من الجذام، منتمٍ للطبقة الفقيرة، متحدثا باسمه، يشاركه في رحلته فتى أسمر من أصل نوبي. يمكن لأي إنسان على مستوى العالم أن يشعر بهذه القضية وأن يقدر هذه المعاناة. ربما هذا أبرز ما ميز.
«يوم الدين» عن غيره من الأفلام المصرية التي تم عرضها في عام 2018، وأبرزها فيلم «تراب الماس» للمخرج مروان حامد، فبرغم تميز «تراب الماس» على مستوى الإخراج والتمثيل فإنه يدور في إطار من التشويق المبنيّ على أحداث اجتماعية وسياسية مصرية، بينما تدور أحداث «يوم الدين» في إطار إنساني.
الجدير بالذكر أن لجنة المشاهدة المصرية قد اختارت في العام الماضي فيلم «الشيخ جاكسون» للمخرج عمرو سلامة، ومن بطولة أحمد الفيشاوي وأحمد مالك ليمثل مصر في سباق الاوسكار، وهو أيضاً فيلم تدور قضيته في إطار إنساني يمكن للبشر التواصل معها في أي مكان في العالم، ألا وهي قضية التشدد والخوف المرضي من الموت في مقابل الشغف بالحياة والاستمتاع بها.
وهكذا يمكننا اعتبار عالمية القضية الإنسانية التي يدافع عنها فيلم «يوم الدين» أحد أبرز أسباب اختياره من قبل لجنة المشاهدة المصرية ليمثل مصر في مسابقة الأوسكار لعام 2018.
يضاف لهذا بالطبع جودة الصنع، وجودة الأسلوب. فقد مزج أبوشوقي بين خصائص الواقعية الجديدة كما ذكرنا من قبل وخصائص فيلم الطريق الذي عادة ما يوفر عنصر من التشويق والجذب للمشاهد.
هنا يخرج رجل متعافى من الجذام في رحلة للبحث عن أهله في الصعيد، رحلة يقابل فيها العديد من البشر، كما يتعرف على حياة لم يعشها منذ أن كان طفلاً، وهكذا يتغير ويتعلم طوال الرحلة، ويظل المشاهد مشدوهاً طوال الأحداث في انتظار تحقق الهدف من الرحلة أو عدم تحققه.
نرى هذه الرحلة بعدسة مدير التصوير فيدريكو سيسكا، وهو أحد أبرز عناصر القوة في الفيلم، وذلك من خلال كادرات تجمع بين الواقعية وجماليات الصورة، يشاركه في هذا موسيقى عمر فاضل الرقيقة والتي تعطى للفيلم أجواء تغلب عليها البهجة رغم قسوة ما يتعرض له أبطاله.
يوم الدين: سواسية كأسنان المشط
يفضي أبطال الفيلم بمكنونه ومعناه في أحد المشاهد، فيخبرونا بأن يوم الدين ربما سيكون اليوم الوحيد الذي سيحظى فيه كافة البشر بالمساواة التي يرجونها. هكذا يفصح الفيلم عن معناه بشكل مباشر، وربما يعتبر الكثيرون هذا أحد أبرز عيوبه على مستوى السيناريو والحوار.
لكننا في النهاية أمام تجربة سينمائية مصرية فريدة من نوعها، لمخرج مصري وصل للعالمية حقاً في ظهوره الأول، عن حكاية مستوحاة من أحداث حقيقية لمصريين لم نسمع عنهم من قبل، ولا يسعنا أمام هذا سوى الاحتفاء بالفيلم وتشجيع النقاش حوله، ونتمنى أن نشاهد أفلاماً مصرية أكثر من صُناع سينما شباب مهمومين بقضايا شعبهم وشغوفين بالسينما كفن قبل أن تكون كتجارة.
وأخيراً الان نتفهُّم متى يحب الجمهور مشاهدة الأفلام الواقعية من حضن الواقع، خاصة في زمن تعرض فيه وسائل الإعلام صورة كاذبة عن حياة المصريين، حينها تصبح السينما الواقعية صوت الجمهور الوعى الوحيد، صوت يستمر صداه لسنواتطويلة الامد، فيظل الفيلم أميناً في نقل قضيته في كل مرة يُعاد مشاهدته فيها في المستقبل.