مازالت روحي ترتدي ذلك البلوفر وتذهب إلى تلك الكنيسة

لدي حنين لاينتهي مع مرور عقود من السنوات لكنيسة إمبابة التي كنت في مثل هذه الأوقات من كل عام والتي كانت تقع بين أعياد ميلاد المسيح المجيد وبين أعياد القيامة

كنت أنعم أنا الصبي الصغير بأجواء منعشة للروح حينما كنت أذهب إلي كنيسة امبابة مع ابناء وبنات جارنا وصديق أبي الترزي (عم جاد أفندي) الذي كان يحيك لي بنطلون العيدين(الفطر والأضحي)

واسم (عم جاد أفندي) علي عهدة شقيقتي الحنونة كأمي (هدي- التي سماها والدي علي أسم هدي جمال عبد الناصر لأسباب قد تكون معروفة ومتفهمة )

هي قالت لي اسمه عندما صفعت جبهتي بكفي محاولاً تذكر اسمه ، وأنا أروي لها ذات جلسة عائلية عن حياتنا وأيام طفولتنا في إمبابة قائلاً :
– عم؟؟؟؟ مش عارف ؟؟؟؟؟؟ أفندي؟؟
– … … … … ؟؟؟؟؟؟ أفندي؟؟
نطقت هي كما لوكانت تجيب علي سؤال شفوي في المدرسة :
– جاااااد… عم جاد افندي..

كنت ابتهج – حين أزور كنيسة امبابة القريبة من شقتنا الكائنة وقتها في المساكن الشعبية التي تقع خلف قسم شرطة امبابة – بالنقوش والأيقونات التي كانت تزين جدران الكنيسة واتعشم ان تكون قد ظلت علي حالها ورونقها إلي الآن وأن تظل في المدي المقبل

، ومازالت روحي شغوفة بالموسيقي والتراتيل التي تتردد أصدائها حتي الآن في أذني عندما كنا نواظب علي حضور حفلات تكليل عرس لأحد أصدقائنا من أهالي إمبابة أو في حال حفل نصف الإكليل أو الخطوبة الذي كان يعقد لأحد أولادهم أو بناتهم ..

هي الكنيسة الأولي التي عرفتها في حياتي
وهي التي عرفت الكثيرين من أصدقاء الصبا والطفولة بين جدرانها ورحابة فنائها علي عدم تناسب صغر مساحته مع احساسي العميق برحابته ..

اتذكر أنني في أعياد السعف كنت آخذ تلك إحدي المشغولات اليدوية التي كانت تصنعها أمي من عيدان القمح ذات السنابل التي كانت تجلبها معها من القرية وتشغلها وتخلق منها شكلا ما هو يشبه العروسة ويشبه الصليب ويشبه الطائر بطريقة أقرب لفن الأربيسك ، لنعلق واحدة منها علي مسمار حائط بلكونتنا – المطلة علي الاسفلت الذي كان يكر عليه التروماي (أبو سنجة) – كتميمة ما تعرف أمي ويعرف المصريون وقوها أسرارها ..

كنت أبادلها مع اصدقائي الإمبابيين بمشغولات السعف التي كانوا يحملونها في احتفالات اعتدنا أن نشارك فيها

إلي جانب دروس المساعدة المجانية التي كنت اتلقاها من إحدي بنات عم جاد افندي الترزي في بيتهم المواجه لمدرسة يطلق عليها جيراننا مدرسة “الجرن” المجاورة لنا ، والتي كانت هي مدرسة إمبابة الإعدادية للبنات

تلك التي كنت اشتري من أمامها أعواد الورد البلدي والقرنفل والقطيفة القرمزية ووردة حنك السبع في أيام الربيع والتي كانت علي قمة سوق إمبابة للأشياء المستعملة (سوق الروبابيكيا) والذي كنت أسير فيه إلي حيث يفضي – ضمن مايفضي بشكل غير مختصر – إلي شارع سيدي اسماعيل حيث الباب الخلفي لمدرسة الوحدة العربية الإبتدائية التي كانت مدرستي

واذكر أن بنت عم جاد افندي الترزي كان اسمها فيفيان التي كانت تذاكر لي دروس الحساب الصعبة المملة التي كنت أكرهها ككرهي لطبيخ البامية يوم أن تعده أمي علي وجبة الغداء

كنا نعرفها بفيفي ولم تكن تبدأ المذاكرة لي إلا بعد أن تقدم لي أمها (طنط أم فيفي) كعكهم المصاحب لكوب الشاي باللبن الكبير التي وهي تسألني معاتبة عن أمي التي لم تأت إليهم منذ اسبوعين حيث كان الإنقطاع عن زيارتهم أو انقطاعهم عن زيارتنا لمدة اسبوع بمثابة تقصير يستحق التساؤل الممزوج بشديد العتاب

مالا انساه هو أن كنيسة إمبابة كانت بها ماكينة تريكو وأن بنات عم جاد أفندي طلبن من أمي لكي يصنعوا لي بلوفر (وبعد أن اسهبت في الإلحاح علي أمي التي وافقت بعد أن ألحت هي علي أبي) أن تشتري لي عدد من (شلل) خيوط الصوف..

وبالفعل ارتديت أول بلوفر تستقر عليه ذاكرتي بهذا العمق علي الإطلاق ، وبفضل مهارة بنات عم جاد أفندي ، وظللت أزهو به بألوانه الزرقاء والوردية وبمثلثاته الملونة بخيوط التريكو الأبيض كل شتاء ، إلي ان تمرد جسدي النامي – بمرور الأيام – علي مقاساته التي كانت قد ضاقت وضاق هو من كثرة ارتدائي له طوال مالا يقل عن أربعة مواسم شتوية ، لكن لازلت روحي بعد مرور عشرات الأعوام تلجأ لذات البلوفر مستدفئة به رافضة أن يسقط من بؤرة العمق في ذاكرتي ..

– الله يرحم عم جاد افندي كما اسمته هدي شقيقتي أو أياً كان اسمه الذي لم استطع تذكره رغم تذكري لملامح وجهه وهيكله الجسدي وهو الذي ظل صديقاً حميماً هو وأسرته لأسرتنا حتي انتقلت بنا سبل الرزق وأكل العيش إلي فراق لايمحو ماعلق بروح الصبي الذي كنته ولايزال يرافقني بمشاغبات الذاكرة اللحوحة ، وتحية لبناته وأولاده أينما كانوا واينما كانت قد حلت بهم مصائر البشر ..
ــــــــــــــــــ
للكاتب :حمدى عبد العزيز

 

Exit mobile version