بَعدَ مَقالَتنا السابقةِ تتساءلُ بعضُ الأمهاتِ: أليسَ الممنوعُ مرغوبًا؟ ألن يضاعِفَ المَنعُ مِن رَغبَةِ أبنائِي في الشَيئِ الممنوع؟
وربما يجعلُ ذلكَ السؤالَ منطقيًا ومُعتَبَرًا، سؤالٌ آخرُ مشابهُ لَه، ألا وهو: ألم تكُن الجَنةُ كلُها حلالًا هنيئًا لآدمَ وزوجِه، بخاصَّةٍ الأطعمةُ مِن كل مَا لذَّ وطاب، ورغم ذلك مالَتْ نفسُهما للشجَرةِ المَمنُوعَةِ عنهما التي نهاهُما ربهما عن الاقتراب منها…. فأكَلَا مِنها؟
وهذا المنطقُ بالفعل هو الذي يَجعلُ بعضَ الأمهاتِ يَقُلنَ أنهُ لَيسَ صوابًا مَنعُ الاختلاطِ عن أبنائنا مُبَكّرًا بين البنينَ والبناتِ منهم، ولا تقييدُ حريتِهم عن صحبةِ من يحبون أو مطالعة ما شاؤوا من المرئياتِ والمُدخَلاتِ المتنوعة، مِن انترنتْ وتلفازٍ وأماكنَ ترفيهٍ وفنونٍ شتَّى وثقافاتٍ مختلفٌ ألوانُها، بحُجَّةِ أن هناك قاعدةً معروفةً ولابدَ مِن وضعِها في الاعتبارِ، ألا وهي أن الممنوعَ مَرغوبٌ.. فبدلًا من مَنعِ ابنهِنَّ مِن فِعلِ الشيئِ الممنوعِ أو الاقترابِ مِنهُ، يَسمَحنَ لَهُ بهِ أمامَهُن وتحتَ رَقابتِهِن كيلا يحصلَ عليه من ورائهن، لأننا شِئنا أم أبَينا هو لن يتركَه إن منعناه! -حَسْبَ كلامِهِنَّ!
ونقولُ لهذه الطيبة.. الممنوعُ مَرغُوبٌ قاعِدةٌ أَجَل… وبالفعلِ تزدادُ الرغبةُ والافتقادُ للشيءِ حينَ نُحرَمُ مِنهُ، لكِنها -كقاعدةٍ- مَوجودةٌ كَي تدفعَنا لمقاومةِ ذلكَ “المَمنوعِ المرغوب”، وعدمِ الحصولِ عليهِ إلا وهُوَ “غيرُ مَمنوعٍ”… أي: في حلالِ الله ووُفقَ حُدودِه، بل عدمُ الاقترابِ منهُ أصلًا لأنه مَن حامَ حولَ الحِمَى يوشِكُ أن يقَعَ فيه، وقد قالَ اللهُ لآدمَ وحواء: {لا تَقْرَبَا}، فلما اقتربا أكلا. تمامًا كما لو أن القاعدةَ بها جُملةٌ محذوفةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بها تقدِيرُها: الممنوعُ مَرغوبٌ فانتبِه ولا تنساقْ وراءَ رغبتِكَ فِيهِ، أيْ: لا تَقرَبا فتأكُلا…!
بينما ليست تلكَ القاعدةُ -قاعدةُ “الممنوعُ مَرغوبٌ”- موجودةً لكي تقنعَنا بـممارسةِ أبنائنا لهذا المَمنوعِ في العَلَن تَجَنُّبًا لممارستِه في السرِ بسببِ حَظرِه!، فنجعلُ أولادنا يباشرون “الممنوعَ” ويعتادونَ عليه تحتَ إشرافِنا، بذريعةِ عدمِ إلجائِهِم لفِعلِهِ في الخفاءِ خلفَ ظهُورِنا! حين يحدثُ هذا، فأي فَرقٍ سيكونُ في تعريفِ الفعلِ المَمنوعِ في الحالتينِ، سوى أنَّ هذا فُعِلَ سِرًا وبدونِ إشرافِنا، وهذا فُعِلَ عَلَنًا وتحتَ إشرافِنا؟؟! هل ينفي هذا عنهُ أنه لازالَ مَمنُوعًا ولا يُرضِي الله؟ هل يَعفي هذا مِن الخطأِ مَن أتاحَ ذلكَ المَمنوع؟ هل ذلك يَمنَعُ الضَرَرَ المُترتِبَ على الاقترابِ مِنه؟
إطلاقا….
الممنوعُ يَظلُ خَطأً، سواءٌ كان سِرًا أم علانيةً، وتظلُ لهُ عَواقِبُهُ الضارةُ على حياةِ الإنسانِ في الدنيا والآخِرة، سواءٌ ارتُكِبَ أمامَ الأهلِ أم مِنْ خَلفِهِم… بل إن ارتكابَهِ بمباركة الأهلِ أولياءِ أمورِ الأبناءِ وتحتَ سمعِهم وبصَرِهِم، بأريحيةٍ دونَ أي غضاضة يجعله أشدَّ ضررًا، لأن ذلك يُمِيتُ الإحساسَ داخل الابنِ بكونِهِ خَطئًا، فيَجعَلُ احتماليةَ إفاقةِ الأبناءِ مِنهُ يومًا ما وتصحيحِ المسار: شِبهَ مُستَحِيلَةٍ… بعكسِ الاضطرارِ لمباشرةِ الممنوعاتِ في السرِ بسببِ نَهيِ الأهلِ عنها….
قَطعًا…!
فكما قلنا فيالتربية?__ref=search”> الصوباتِ التربويةِ وفي المقالةِ السابقة:
أبعدِي ولدَكِ عن الفِتَنِ بشكلٍ عامٍ ما استطعتِ إلى ذلكَ سبيلًا، وعنِ الصحبَةِ السيئةِ بشكلٍ خاصٍّ -سواءٌ أشخاصٌ أو مرئياتٌ أو كتبٌ أو أماكنُ أو كلُ ما ينطبِقُ عليهِ وصفُ المُصاحَبَةِ لأولادِك- لأن الجليسَ الصالحَ كحامِلِ المِسكِ، وجليسُ السوءِ كنافِخِ الكِيرِ.. ودينُنا أمَرَنا أن نَختارَالجليسَ الصالِح، وحذَّرَنا مِن مُصاحَبةِ جليسِ السوء، مِن بابِ الوِقايةِ والحِفظِ لدينِنا وعاقِبَتِنا..
وبالتأكيد أولادنا أولى بذلك..
أي نعم لن نَضَعَ أبناءَنا في بيئةٍ مُعَقَّمةٍ ومدينةٍ فاضلةٍ مائةٌ بالمائة! -لأن البيئةَ مهما فَعلْنا مَليئةٌ بالمُدخَلاتِ المُنكَرةِ والفِتنِ على أشكالِها ظاهرةً وباطنة ونُرَبِّي أبناءَنا دومًا على التشمِيرِ والتَرَبُصِ لها والحَذرِ مِنها لتلافِيها، وعلى التوبةِ إذا وقَعوا في أيٍّ مِنها، وعلى التقوَى في السرِ والعلنِ للوقايةِ مِنها، فحِواراتُ الفِتَنِ إذًا ليسَت بعيدةً عن مسارِهم الحياتِيِّ فلسنا فِي بروجٍ مُشَيِّدَة.. لكن أن أضعَ وَلدِي بنفسِي في بيئةِ فِتنٍ، وأقولُ له “قاوِم”! “امتَنِع”..! “إياكَ أن تقترِب”!، وكل هذا وهو أصلًا لازالَ في طَورِ النموِ الانفعاليِّ والنفسِيِّ والإيمانِيِّ فلَم يَنضِجْ بعدُ ويَبلُغْ أشدَّهُ ورُشدَهُ وامتلاكَهُ لزِمامِ نفسِه…؟!
النبي ﷺ أمرنا أصلا ألا نتمنى لقاءَ العدوِ، قال: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ..وَاِسْأَلُوا اللهَ الْعَافِيَةِ»(رواه مسلم)
قال المناوِيُّ في شَرحِ الحديثِ: “لا نَتَمَنَّى لقاءَ العَدُوِ، لِما في ذلكَ مِن صورةِ الوُثوقِ بالقُوةِ، وقِلةِ الاكتراثِ به، وهذا مُخالِفٌ للاحتياطِ” –بتصرف
وليس ذلك إلا لأن الثباتَ أمامَ الفِتَنِ شديدٌ حتى على أقوى الأقوياءِ إيمانًا وبُنيانًا، فكيفَ لعاقلٍ أن يطلُبَ الفتنةَ بنفسِهِ ويسعَى لها سَعيَها أو مجرد حتى يفتحَ لها البابَ استسلامًا لها وينتظرُ قدومَها على أبنائِه، بزَعمِ أن منَعَها يَجعَلُ نفوسَ أبنائِه تَتُوقُ وتميلُ لها أكثر!؟
إن هذا أشبهُ بِمَن يقولُ: “سأعطي ابني بَعضًا مِن المُخَدِّراتِ حتى لا يَضطَرَّ للتَخَفِّي بتَجَرُّعِها سِرًا دُونَ إشرافِي”!..
صَدَمَكُم المِثالُ….؟!
وهل فَتْحُ بابِ المُدخَلاتِ على مِصراعَيهِ أمامَ حواسِّ أبنائِنا وقلوبهم، أقَلُ فَتكًا بالعَقلِ والفِطرَة والقِيَمِ، من المُخَدِرات….؟!
ألم نَعلَم تحذيرَ النبي صلى الله عليه وسلم مِن مُجَرَّدِ مُوارَبَةِ البابِ بإرادتِنا الحُرةِ ولو شِبرًا حتى، قال: «ويْلَكَ ! لا تفتحْه، فإنَّك إنْ تَفْتَحْه تَلِجْهُ»(جامع الترمذي) فكيفَ بمناعةِ مَن هُم أضعفُ وأصغرُ وأقلُ رُشدًا ومقاومةً مِنا أمامَ الفِتَنِ والشهواتِ: فلذاتُ أكبادِنا؟
ثم إنه ﷺ أمَرَ الرجالَ بسَترِ العوَراتِ وغضِ البَصَرِ، وأمرَ النساءَ بالحجابِ وسَترِ زينتِهِم وغَضِ البَصَر، كلُ ذلكَ من بابِ الوقايةِ والاحتياطِ مِن فِتنةِ “المَمنوعِ”، لأن الوقايةَ مِنَ المَمنوعِ خَيرٌ من علاجِ آثارِ الوقوعِ فيه….. بلا شك..!
ويأتي سؤالٌ: هل بتلكَ التنبيهاتِ النبويةِ قد عَقَّمَ النبيُ ﷺ المُجتَمَعَ مثلًا؟
إطلاقًا..
إنما هي مجردُ إجراءاتٍ وِقائيةٍ لن تمنعَ الفِتَنَ تمامًا، لكنها تُقَلِّلُ مِن شِدَتِها وعدَدِها وانتشارِها بلا شك وهذا هو مَعنَى الوِقاية من المشكلة.. مع تأكيدِه ﷺ دائمًا على الثباتِ والمقاومةِ ومُجاهَدَةِ النفس عند الفِتَنِ، فكما في بقيةِ حديثِ لقاءِ العَدُوِّ «فإذا لقِيتُموهُ فاثبُتُوا» وهذا هو معنى العلاجُ إذا وَقَعَتِ المشكلة…
خِتامًا…
لا أضعُ ابنِي في بيئةِ فِتَنٍ وأقولُ: فرصةٌ كي يتعلمَ ويُصبِحَ مِن ذَوِي الخِبرَةِ
لكن أُعَلِمُه كيف يُقاوِمُ إذا دَفَعَتْهُ أقدارُ اللهِ للتواجُدِ في بيئةِ الفِتَن.. ولا يستويان قطعا…حتى إذا اشتدَّ عُودُه وَوُضِعَ في بيئةِ الفتنِ بقدَرِ اللهِ وطبيعةِ الحياةِ لا بإرادَتِي أنا: يكون قادرًا على المقاومةِ والاستمساكِ بالصلاح بحول اللهِ وقوتِه.. وواجب عليَّ قطعا ما استَطَعْتُ، انتِشاُلُهُ مِن أيِّ بيئةِ فِتنٍ يَقَعُ فيها..
يتبقى سؤال: ماذا لو قال لي ولدي “لازلتُ صغيرًا يا أمي وليس لي سيئاتُ بعدُ!” فيرتكب الخطأ بتلك الحجة..
فماذا أفعلُ….؟ والجواب في المقالةِ القادمةِ بإذن الله..