ممنوعات 4: أبدا ما شمتُ فيك.. “لا تُظهِر الشماتةَ لأخيك”

فنُّ الكتابةِ في الصفحة البيضاء...

أحيانا نجد بعض الأمهات، حين يسقُط ولدَها أو يصطدمُ بشيئ مؤلمٍ أو تنكسرُ لعبتَه، تقول له أمُه: “أحسن ! أنتَ تستأهل وتستحق ما حدث لك! هذا بسبب غضبي عليك ! أو هذا بسبب عصيانك أمري!”..

تشمَتُ في ولدِها بوضوح.

بينما -وكما قلنا في المقالات السابقة- عينُ الأمومةِ هو استشعارُ الأمِ أن ما يؤذِي ولدَها يؤذيها كذلك كما قال النبي ﷺ عن فاطمتِهِ: “إنما فاطمةٌ بِضعَةٌ مِني يؤذيني ما يُؤذِيها” فالطبيعيُّ هنا، أن لا تغلبَ روحُ الثأرِ بداخلِها على فطرةِ الأمومة لكن ما يحدثُ هو العكسُ.
فما الأسبابُ؟

قبل تفصيلِ الأسباب، فمن الإنصاف أن نُفَرِّقَ هنا بين نوعين من الأمهات:
النوعُ الأول:
تُظهِرُ الشماتةَ رُغمًا عنها لفرحتِها أن ولدَها سيتعلُم درسًا لن ينساه فيتأدب ويَرشُد، لكن قلبُها عامِرٌ بحبِ ابنِها ولو آذاه غيرُها معها أو تدخَّلَ بشفاعةٍ سيئةٍ عنه ستغضبُ لولدِها وتدافعُ عنه..

والنوعُ الثاني:
تُظهِرُ الشماتةَ عمدًا وبداخلِها غِلٌّ حقيقي على الولد، وتفرحُ كلما تألمّ أكثر حتى إنها تأتِي بآخرين يضاعِفون عليه الإيلامَ النفسيَ، لا لتأديبِه وردعه وإنما للشماتةِ به أكثر وإذلالِه وكسرِه.

كلتاهما، قد يكون ولدُها صعبُ المِراسِ حقا وعنيدًا ويثيرُ غضبَها بسهولةٍ وتَعجَزُ عن تقويمِه أو تستعجلُ الثمرةَ
لكن الفرقُ بينهما:
أن الأم الثانيةَ تتركُ الغضبَ للنفسِ يَتَملَّكُ قلبَها ويتعاظَمُ حتى يغلبَ الأمومةَ ويصلَ للتشفي، فالتربيةُ بالنسبةِ لها تصبحُ معركةً بين فيلٍ ونملةٍ ويجبُ أن تنتصِرَ فيها على ولدِها كي لا تضيعَ هيبةَ الفِيل ! وأحيانًا يَفلِتُ الولدُ من شماتتِها فيه لكونِه بريئًا مثلًا من الخطأِ الذي تُعَنِّفُه عليه، فتشعرُ حينَها بانكسارِ هيبتِها أمامَه، فتتربصُ له عند أقربِ عثْرةٍ كي لا يظنَ أنه غلبَها فيتمادَى ظنًا منها أن هذا الذي سيَردَعُه فيصبحُ التشفي والشماتةُ ديدنَها، ويَغِيبُ استحضارُ منهجِ الرسولِ ﷺ عند الغضب والنوايا التربوية ومع الوقتِ تتحولُ لعلاقةِ عداءٍ كاملٍ، يخفُتُ فيها الوُدُ واللطفُ والتراحمُ، ويطغى فيها الحقدُ والتربُصُ والمَقتُ والقَسوةُ وتتبخرُ مَقاصِدُ التربيةِ ويَنفَرِطُ العِقدُ
فلماذا نتركُ أنفسنَا حتى نصلَ لتلك الهاوية؟

لذلك نقول:
إن كنتِ من النوعِ الأول
-فلا تُظهِري الشماتةَ في ولدِكِ مهما كانتْ نواياكِ طيبةً، لأنه لن يفهمَ سِوَى أنكِ تشمَتين فيه، وسيقتدي بكِ في تعاملاتِه مع الآخرين.
-وجاهدي لذلك نيتَكِ دومًا أن غايتَكِ الكُبرى هي مصلحتُه بعيدًا عن حظِّ نفسِكِ.. تَذكَّرِي دومًا: {ليسَ لكَ مِنَ الأمرِ شَيئٌ}، لئلا تتحولي مع الوقتِ للنوع الثاني…

وإن كنتِ من النوعِ الثاني
-فآن الأوانُ لوقفةٍ حاسمةٍ مع نفسِكِ لتأديبِها قبلَ الآخرين، فماذا بَقِيَ من الأمومةِ إن تركتِ نفسَكِ لمشاعرِ الحِقدِ تجاهَ ولدِكِ، والمَقتِ والرغبةِ في الانتقامِ مِنه…؟

حين يحزَنُ ولدُكِ أو يُؤذَى ويتألمُ، أنتِ أمٌ مُشفِقَةٌ، لا عَدُوٌ مُتَشَفِّي، بأيِّ مبررٍ كان…
فعادةً، الذي يفرحُ بآلامِنا، هم الأعداءُ، كما قال هارونُ لأخيه مُوسَى عليهما السلام:  {فلا تُشمِتْ بيا الأعداءَ} ..

فأصلُ الشماتةِ: فَرَحُ عَدُوٍّ بِبَلِيَّةٍ تُصِيبُ مَنْ يُعَادِيه..*1
بل هي من شِيَمِ ألدِّ أعداءِ المُؤمِنِ: المنافق..! قال تعالى:  {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} ..!
فكيف يُعقَلُ هذا مِن أمٍ تجاهَ ولدِها؟ُ

وقال الشَّوكانيُّ: ((استعاذَ ﷺ مِن شَمَاتَةِ الأعداءِ وأمرَ بالاستعاذةِ منها؛ لعِظَمِ موقِعِها وشدَّة تأثيرِها في الأنفُسِ البَشريَّةِ ونُفُورِ طباعِ العِبادِ عنها، وقد يتسبَّبُ عن ذلكَ: تَعاظُمُ العداوةِ المُفْضِيةِ إلى استحلالِ ما حرَّمهُ اللهُ..))–
يقصد أنك بذلك تفتنين ولدك عن طاعة الله..
وحتى لو كان ما تعرَّضَ له مِن ألمٍ أو مشكلةٍ هو بسببِ عدمِ استماعِه لنصحِكِ وتحذيراتِك، فلا مُبررَ للشماتةِ ناهيكِ عن إظهارِها..
إنما دروسٌ وعِبَر..
وربما عتابٌ إن أردتِ..
ولكنِ الأفضلُ تأجيلُ العتابِ قليلًا ريثما تواسيه أولا، ثم يكونُ عتابًا تربويًا تعليميًا لاستخلاصِ العِبَرِ وتقويمِ السلوك، لا صورةً من الشماتةِ والثأر
(أنت مجروحٌ الآن يا ولدِي.. هذا ليسَ وقتَ العتابِ)
تلك جملةٌ أعجبتني في مقالةٍ لأحدِ التربويين الأفاضلَ
فنربتُ أولًا ونحنًو ونرحمُ بلهفةٍ وقلقٍ ونطيِّبُ الخاطرَ ونُرَبتُ على القلبِ ونَرقِي بأيدينا مَوضِعَ الألَمِ، سواءٌ في الأبدانِ أو الوجدانِ
حتى لو كان الألمُ بسببِ خطئِه وعِنادِه
ثم نعاتبُ إن أردنا، لتبيينِ الخطأِ لئلا يتكررَ
ومن ذلك:
-أن نبينَ له أن ما حدثَ هو بسبب العنادِ وصمِّ الآذانِ عن النصح
-وأن الواجبَ فيما بعد عصيانُ هواه وإعمالُ عقلِه في الحقِ، واتباعُه بعدما يتبين بوضوح..
-وإن لم يقتنع أحيانًا لقلةِ خبرتِه، فالوالجبُ عليه طاعةُ والديه ثقةً في أنهما أحرصُ الناسِ عليه، ماداما يتقيانِ اللهَ فيهِ وهو يعلمُ، ومادام الأمرُ فيه ضَررٌ أو تفويتُ مصلحةٍ متحققة..
-وأنه ليسَ عَجبًا أن نُخطِيءَ لكنَّ العيبَ أن نتمادَى في الخطأِ ونُكَررَه بعدما تعلمنا الدرسَ..
لكن هذا لا يمنعُ أننا أحيانًا قد نجعلُ ولدَنا يتعلمُ خطأَه ويُصحِحُهُ بينما جُرحُه لازالَ موجودًا، إذا كان الموقفُ لا يَحتَمِلُ التأجيلَ أو الانتظارَ..
كما حدثَ مع المسلمين في مَوقعةِ أُحُد، حينَ أثخنَتْهُمْ مُصيبتُها جِراحًا وآلامًا جَسديةٍ ونفسيةٍ عميقة، وكان ذلك بسببِ خطأِ طائفةٍ مِنهم بتركِهم جبلِ الرُماةِ فانكشفَ ظَهرُ المسلمين للعدوِ ووقعَ ما وَقع…
ولم يمنعْ ذلكَ النبيَ المربي الرؤوفَ الرحيمَ ﷺ، مِن أن يأمُرَهم وجراحُهم لم تندمِلْ بعدُ، بالذهابِ إلى مِنطقةِ حمراءِ الأسد، لملاقاةِ الكفارِ من جديد وترميمِ الخطأِ… وانتظروا هناك ثلاثةَ أيامٍ جَبُنَ فيهنَّ عدوُهم عن ملاقاتِهم، فعادُوا للمدينةِ مَرفوعِي الرأسِ مِن جديد..
الشاهد:
نُوازِنُ أمورَنا بين هذا وذاك حين يستدعِي الأمرُ استثناءً حسبَ المواقف.. لكنِ الأصلُ هو المَرحَمةُ واللينُ والرأفةُ.. وأن لا شماتةَ مطلقًا في المُؤمنين.. تمامًا كالدعاءِ عليهم وسبِهم…
وهذا التوازنُ مطلوبٌ لئلا نصنعَ طفلًا مدللًا بدرجةٍ مُفرِطَةٍ، مُفتِقرًا للقوةِ النفسيةِ المطلوبةِ، غارقًا في الهشاشةَ النفسيةَ..
فلا ينكسِرُ حين تعصفُ به المعاملاتِ الإنسانيةِ المختلفةِ فيما بعد..
وهذا يشملُ البنتَ والولدَ على حدٍ سواء..
وبالتالي كذلك، إذا رأيتِ أحدَهم يشمَتُ بأخيه فعلميه:
-أن هذا حرام..
-وأن الشماتةَ لا تكونُ إلا في منافقٍ أو عدوٍ للهِ مُحارِبٍ لشرعِهِ وفِطرتِه، لا بين المؤمنين…
وأن الله قال: {إنما المؤمنون إخوة}.. و{رحماءُ بينهم}
ونبيه ﷺ قال: “لا تُظهر الشماتة لأخيك، فيرحمه الله ويبتليك”..*2
وقال أيضا: إن أفضل المسلمين، من سلم المسلمون من لسانه ويده
وقال أحدُ أكثم بن صيفي، الصحابيُ الجليلُ وحكيمُ العربِ المُفَوَّهُ: (ليس مِن الكرم أن يَشْمَت الرَّجل بصاحبه إذا زلَّت به النَّعل، أو نزل به أمرٌ)*1
أعلمُ أننا أحيانًا كثيرةً يكونُ بداخلنا بركانٌ يغلي ولا يُطفِيءُ ثورتَه إلا بإفحامِهم بشدةٍ لا تخلُو مِن شماتَةٍ وقسوة…
لكن:
-حين نتذكرُ تلك النصوص الشرعية،
-وأننا بذلك نربيهم على الشماتةِ بالآخرين فننقلُ الخطأَ بأيدينا لأجيالٍ متتاليةٍ ونَحملُ أثقالًا مع أثقالنا،
-وأن الهدفَ الجليلَ مِن وراءِ بناءِ علاقةٍ متينةٍ معهم أهمُ مِن إفراغِنا لشحناتِ غَضبٍ عابرة،
===فباستحضارِ كلِ ذلك، نتمكنُ من كبحِ غضبِنا، مُحتسبين الأجرَ من الله…
وإلى اللقاء في المقالة القادمة بإذن الله، مع الممنوع الخامس: ((أبدا ما فضحتك))..

Exit mobile version