ليست كُلِ أخطاءِ الطفولَةِ بلا حسابٍ ولا عقوبة..
مَاذَا أَفعَلُ لَو قالَ لي ولدي: “لازلتُ صغيرًا أُمي! وليسَ لِي سيئاتُ بَعدُ!” ويَرتَكِبُ الخطأَ بتلكَ الحُجة..؟ أنا أهددُه بمثلِ ذلكَ ليَرتَدِع.. فأقولُ: “لو كذَبتَ ستدخلُ النارَ فِي الآخرة.. أو إن لم تسمعْ كلامي فاللهُ سيعاقِبُك ويَغضَبُ عليكَ في الدنيا.. أو اللهُ لا يحبُكَ لأنكَ فعلتَ كذا..”.. ابنتي تضرب إخوتَها وتأخُذُ أغراضَهم مُطمَئِنَّةً أن اللهَ يحبُها مهما أخطأَتْ ولن يحاسِبَها لأنها طفلة.. كيف أجعلُهم يَتَوقفون عن الخطأِ إن لم يكنْ ثَمةَ تَرهيبٌ هكذا بالعقابِ الإلَهيِّ لهم بَعد؟
والجوابُ: لا يجوزُ أن نُخبِرَ الأطفالَ دون التكليفِ، أيًّا مِن ذلكَ إن أخطأوا..
أولًا: لأن هذا كذِبٌ صَرِيحٌ، إذ أن اللهَ قد رفعَ عنهم القلمَ بالفعلِ قبلَ البلوغِ، فلا حسابَ ولا نارَ ولا مؤاخّذّةَ لِمَن هم لازلُوا في طَورِ النُمُو العَقلِيِّ والنفسِيِّ والمَعرِفيِّ.. ليس هناك سِوى حسناتُ أعمالِهم فقط تُكتَبُ لهم مِن ربٍ شكورٍ رحيم، تشجيعًا لهم..
ثانيًا: لأن كلامَكِ هذا يَغرِسُ في قلوبِهم الرقيقةِ شُعُورًا سَلبيًا تجاه الرحمن، في مرحلةٍ نحنُ فيها أحوَجُ ما نكونُ لغَرسِ مَحَبةِ اللهِ لهم، ومحبتِهم إياهُ بالمُقابِلِ مَحبةً تَرسُخُ لآخِرِ العُمُر.. وحتى لو كان ابنُكِ بالغَ الحُلُمِ، فلا يجوزُ كذلك إخبارُه بتلكَ الجُمَلِ، لأن هذا يُعتَبَرُ تأليًا على اللهِ، أي: افتراضُ إرادةٍ مُعينةٍ للهِ في أَمرٍ ليسَ لنا فِيهِ من اللهِ بُرهان.. وقد يُعَرضِكِ أنتِ إلى حبوطِ عملِكِ ودخولِ النارِ والعياذُ بالله، «قال رجلٌ: واللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، وإنَّ اللَّهَ تَعالَى قالَ: مَن ذا الذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أنْ لا أغْفِرَ لِفُلانٍ!، فإنِّي قدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ، وأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» (رواه مسلم) وفي رواية: «أن الله قال لذلك الحالِفِ: أكنتَ بي عالماً؟!، أو كنتَ على ما في يَدي قادرًا؟! وقال: اذهبوا به إلى النار»(أخرجه أبو داود)، بالإضافةِ إلَى كَونِهِ مُيئسًا للعبدِ مِن رحمةِ ربِهِ لِما في الكلامِ مِن حَسْمٍ قاطِعٍ للأمل..
فاحذري .. فالنيةُ الصالحةُ لا تصلِحُ العملَ الفاسِد.. وهو إفسادٌ مِن حيثُ تريدين إصلاحًا.. وبالنسبةِ لسؤالِك، فأجيبُكِ في خمسةِ محاورَ على هيئةِ حوارٍ معَ ولدِك:
أولًا بُني: قد جعلَ اللهُ الطفولةَ مرحلةَ تمرينٍ طويلٍ يَسبِقُ التكليفَ، لأن الإنسانَ يحتاجُ لفترةٍ ممتدةٍ تتسعُ للتجربةِ والخطأِ واختبارِ تفاعلاتهِ مع الحياةِ وفَهْمِ أحوالِها المُختلفَةِ والتَعَرضِ للتقويمِ المستمرِّ لمعارِفِهِ وسلوكياتِه، كي يَرسُخَ في طبائِعِه وطريقَتِه في الحياةِ تَراكُمِيًا: الميلُ للخيرِ والبُعدُ عن الشرِ.. حتى إذا بلغَ الحُلُمَ، كان مُتَمَرِّسًا كفايةً ومُؤَهَّلًا لأداءِ رسالتِه العظيمةِ التي أُعِدَّ لها طوالَ طفولتِهِ وسيبدأُ حسابُه عليها الآن.. لهذا احتاجَ لطولِ مَرحلةِ الطفولةِ ولرفعِ القلمِ عنه فيها..
لا ليتمادَى في الخطأِ قائلًا قولَ اليهودِ والنصارَى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ}[المائدة:18]، بعكسِ بقيةِ المخلوقات: يكبرونَ وينتقلونَ بسرعةٍ من طَورِ الطفولةِ إلى طورِ النُضجِ والبلوغ، لأن ليس لهم رسالةُ إبلاغٍ للحقٍ وتَعميرٍ للحياةِ بهِ كبَنِي آدَم، بل خُلِقُوا لغرضٍ آخر: أن يكونوا مُسَخَّرِينَ لهذا الإنسانِ في غذائِهِ وركوبِهِ ومعاشِهِ الذِين يستعينُ بهم على رسالتِه تلك، فلذلك يَكبُرون سريعًا…
فهذا الفرقُ العَظِيمُ يَجعلُنا نَجتَنِبُ إهمالَ التَجَهُّزِ لرسالتِنا تلكَ.. خوفًا من إفسادِنا الأرضَ حين نبلُغَ، ومِن عِقابِ اللهِ على ذلكَ حينَها..
ربنا قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس:9]، والتَزكِيةُ تحتاجُ لفترةِ تَدريبٍ مُكثَّفٍ، حتى إذا بَلَغَ الصغيرُ باستقامَةِ العُودِ دَهرًا طَوِيلًا، لم يُعْوَجَّ وينحَرِفْ، وسَهُلُ عليهِ تفادِي الأخطاءِ عندَ التكليفِ بإذنِ اللهِ، لأنَ الخطأَ يومئذٍ ما عادَ مرفوعٌ عنهُ القَلَم، بل قد يُضاعِفُ اللهُ عليهِ العُقوبةَ أحيانًا حسبَ الأحوالِ الشرعية.. وَصَدَقَ القائِلُ: “ويَنشَأَ ناشِيءُ الفِتيانِ علَى ما عَوَّدَاه عليه أبواه”…
ثانيًا: كيفَ تقولُ هذا وأنتَ تريدُ مكانًا معَ طائفةِ “شابٍ نشأَ في طاعةِ اللهِ” ضمنَ السبعةِ الذينَ سيُظِلُّهم عرشُ الرحمنِ يومَ تدنُو الشمسُ من الرؤوس؟ فما طاعةُ اللهِ إلا فِعلُ أوامرِه واجتنابُ نواهِيه!؟ وما النشأةُ فيها إلا بالمواظبةِ والتدرُّبِ على ذلكَ بكلِ طاقتِنا؟
ثالثًا: أمَرَنا نبيُّنا ﷺ أن نُمَرّنَ الأطفالَ على الصلاةِ عندَ سَبعِ سنينَ، وأنَّ مَن يرفُضُها نَضرِبُه عِندَ عَشْرِ سنين ليَزدِجِرَ ويُقَوَّمَ.. وكذلكَ قالَ التابِعُونَ أن آباءَهم مِن الصحابةِ كانوا يَضرِبونَهم على العَهدِ والأيمانِ وهم صِغار، أي يُؤَدِبُونَهم بالضربِ لو رأَوا منهم تَساهُلاً في الحَلِفِ باللهِ والعُهود، ولم يَمنَعْهُمُ النبيَّ ﷺ مِن ذلكَ بَل وَضَعَ ضوابِطَ شرعيةً للضربِ.. أليسَ ذُو العَشرِ سنواتٍ بُنَيَّ -وأصغرُ مِنهُ- لَم يَبلُغُوا الحُلُمَ بَعدُ؟ فلِماذَا يُعاقَبُون؟ الجوابُ: نَعَم، الصغيرُ غيرُ مُكَلَّفٍ، لكنهُ يُضرَبُ تأدِيبًا ورَدعًا عن الخطأِ، لأننا لو سلَّمناهُ للبُلوغِ وهو تاركٌ للصلاة أو مُستَهِينٌ بأوامرِ الله، سيستمرُ غالبًا على تلكَ الاستهانةِ بها وبغيرِها ويصيرُ مِن أهلِ الانحرافِ عن الصراطِ المستقيمِ والعياذُ بالله.. فهل ضربُه على ذلكَ قبلَ التكليفِ وتقوِيمُ اعوجاجِهِ وهو لازالَ عُودًا أخضَرَ لَينًا، أهوَنُ؟ أم ألمُ النارِ في الآخِرَةِ إذا ماتَ على ذلكَ في البلوغِ؟ وليسَ كُلُ التأديبِ ضَربًا فقط بالطبع.. ولكن لماذَا تُعَرِّضُ نفسَكَ لأيٍّ منها بُنَيَّ وتُحزِنُنِي وتُحزِنُ نفسَك؟
أنا مطلوبٌ مِني أمامَ اللهِ، تَعليمُكُمُ الحقَّ وتَطوِيعُكم عليهِ حتى البلوغ، وعند ارتكابِ الخطأِ فواجِبِي تحذيرُكم منه وتأديبُكم عليهِ وردعُكم عنه بكلِ وسيلةٍ شرعيةٍ محمودةٍ ومُعتَبَرَةٍ كما فعلَ الصحابةُ تلاميذ النبي ﷺ، إلى أن أطمَئنَّ أنكم ارتدَعتُم، أو أني قد بلَغْتُ مِنَ الوُسعِ أقصاهُ أمامَ رَبِي وإن لم تَرتَدِعُوا… أيُهما أقربُ..
رابعًا: ليست كُلِ أخطاءِ الطفولَةِ بلا حسابٍ ولا عقوبة.. بمعنى: لو أنكَ سرَقْتَ شيئًا مِن أخيكَ مثلًا والعياذُ بالله وتَعلَمُ خَطأَ هذا، فأجَلَ! لن تَكتُبَها الملائكةُ في صحيفتِكَ بَعدُ، وليسَ مِن حقِّ القاضِي كذلكَ أن يَقطَعَ يَدَكَ كعقوبةٍ جِنائِيةٍ بحَدٍّ مِن حُدُودِ اللهِ، لأنكَ لستَ مَسؤُولًا بعد مسؤوليةً جِنائِيةً، لكن معّ ذلكَ فمِن حَقِّي كَوَلِيِّ أمرِكَ أن أعاقِبَكَ عقوبةً تأديبيةً رادعةً طالما تَخَطَّيْتَ السبعَ سنوات، بخاصةٍ لو كان الأمرُ مُتصلًا بحقوقِ الآخرين، كالضربِ مثلًا وشهادةِ الزورِ وخيانةِ السرِ والسبِ والغِيبةِ والسخريةِ من الآخرينَ وترويعِهم وإخفاءِ أغراضِهم وعدمِ احترامِهِم، لن أتركَكَ تفعلُها وأقفُ مُتَفَرِّجَةً، تمامًا كما لن أتركَكَ لو رأيتُك تُؤذِي نفسَكَ.. ولا يعنِي هذا أن أتركَكَ تُخطِيءَ إن كنتَ أقلَّ مِن سَبعِ سنوات.. فللوالدينِ تأديبُ أولادِهما وعقابُهما عند الحاجةِ طالما يعقِلونَ العقابَ ويَردَعُهُم..
خامِسًا بُنَي: إن ربَنا الكريمَ الطيبَ المُحسِنَ الرحيمَ قد جَعلَ لَكَ على الطاعاتِ والخيراتِ حسناتٍ تُسَجَّلُ فِي صحيفَتِكَ وأنتَ بَعدُ لازِلتَ طِفلًا لا تَعقِلُ كثيرًا مِنها.. ألا يَستَحِقُّ منكَ أن تَترُكَ الأعمالَ السيئةَ والشَرَّ الذِي لا يُحبُهُ ونَفَّرَكَ مِنْهُ؟
قال تعالى: {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7]، فجديرٌ بِنا ذلكَ بُنَيّ، شُكرًا للِه الكريمِ وتَحَبُّبًا وتَعَبُّدًا لهُ بِكلِ جميلٍ، فخيرُه ليلَ نهارَ إلينا نازِلٌ، أفيكونُ شَرُّنا ليلَ نهارَ إليهِ صاعِدٌ..؟ هل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسانِ بُنَيّ؟
وهكذا أيتُها الكريمةُ، تَحُلِّينَ المُعضِلَةَ، وتتجنَّبِينَ التألِّي على اللهِ والكذِبَ، ويفهَمُ ولدُكِ أنه إن لم يَكُن هناكَ عِقابٌ إلهيٌّ فهناكَ عقابٌ بَشَرِيٌّ أباحَهُ اللهُ لرَدعِ الأطفالِ دونَ البلوغِ لتعويدِهم الخيرَ وتَرْكَ الشَرِ، وكَفِّ أذاهم عن الناسِ وأنفسِهم.. مع العِلمِ -وكما قال الدكتورُ عبدُ القادِرِ عُودَه في كتابِهِ “التشريعُ الجنائيُّ الإسلاميُّ مُقارَنًا بالقانونِ الوَضعِيِّ”- أنه: “لم تُحَددِ الشريعةُ نوعَ العقوباتِ التأديبيةِ التي يُمكنُ توقيعُها على الصِبيان، وتركتْ لولِيِّ الأمرِ تحديدَها على الوَجهِ الذِي يترَاءَى له، ومِنَ المُسَلَّمِ بهِ لَدَى الفقهاءِ أن التوبيخَ والضربَ مِن العقوباتِ التأديبيةِ.. وتركُ تحديدِ العُقوباتِ التأديبيةِ لولِيِّ الأمرِ يُمَكِّنُ مِن اختيارِ العقوبةِ المُلائِمَةِ للصَّبِيِّ في كلِ زمانٍ ومكانٍ، فيجوزُ لولِيِّ الأمرِ أن يُعاقِبَ بالضربِ أو التوبيخِ، إلى غَيرِ ذلكَ من الوسائلِ التي تؤدِي إلى تأديبِ الصبيِّ وتهذيبِه” انتهّى كلامُه باختصارٍ يَسِير..
فسُبُلُ العِقابِ والتأديبِ مُتَنَوِّعَةٌ مُتَدَرِّجَةٌ ولها ضوابطُ وشروطٌ وموانعُ نُفَصِّلُها لاحقًا بإذن الله.. وبعدَما أنهينا مُتَعَلِّقاتِ المَمنوعِ الأولَ مِن الممنوعاتِ العَشرِ “أبدًا ما عَصَيتُ اللهَ لأُرضِيَكَ”، ننتقلُ للممنوعِ الثانِي: “أبدًا ما دَعَوتُ عليكَ”..
في المقالةِ القادمةِ بإذنِ الله.