في حب سابع جار
بعد إنقطاع طويل عن مشاهدة الدراما المصرية بسبب ردائة المحتوى، ولسبب غير معلوم بدأت أتابع مسلسل “سابع جار”.
المسلسل الوحيد اللي قدر يخليني أتابعه بشغف وفضول، العمل اللي أقنعني إن لسه فيه فرسان مستعدين لمواجهة السائد مجتمعيا من العادة والتخلف بجسارة، عن طريق الفن، رغم إنهم من أوساط إجتماعية يبدوا ظاهريا إن نشأتهم فيها تخليهم في مأمن من المعاناة الناتجة عن الموروث الخاطئ.
لكن الحقيقة أكتر ناس بتعاني من نتاج التخلف المجتمعي والعادة والصور النمطية والأحكام الأخلاقية المسبقة هما إللي بينحدروا من أوساط متحررة عن قناعة متجزرة فيهم.
قناعاتهم دي بتحطهم في مواجهة دائمة مع كل المجتمع بإختلاف طبقاته ودي معارك نفسية وعذاب سرمدي وإستنزاف للروح لو تعلمون عظيم، تخليهم في عزلة أو شبه منبوذين، خصوصا إذا كانت النشأة دي في عائلة فنية مرت بهزَّة عنيفة نقلت المعركة المستمرة مع المجتمع الخارجي لصراع داخل الأسرة يهدّ كل معتقداتهم ويشكِّكهُم في كل قيمهم وقناعاتهم، بعد ما فرد منها إتأثر بالفكر الأصولي إللي إجتاح عموم مصر في السبعينات وخلَّى كتير من الفنانين أعلنوا إعتزالهم الفن أو “الحرام” زي عازف الأورج (يسري رمزي) والد هبة يسري إللي كتبت المسلسل وشاركت في إخراجه.
(هبة يسري) من أسرة فنية عتيقة، جدها هو (محمود رمزي) عازف التشيللو الرئيسي في فرقة (أم كلثوم) وجدتها هي زوجته المطربة الراحلة (شهرزاد) واحدة من أهم مطربات الخمسينات والستينات شهرزاد كانت مُخلِصة لموهبتها وتخصُّصها وشغفها فَـ مُشاركاتها السينمائية كانت ضئيلة وإقتصرت على الغناء بس على عكس المُعتاد لما يبزُخ نجم أي مطرب منذ نشأة السينما في مصر وإلى اليوم.
شهرزاد كانت بتعشق أم كلثوم وبتحلم تكون زَيَّها مطربة مشهورة وتقدم شئ يرقى لإنه يكون فَنْ.
أول ما غنِّت كان في وجود عمالقة زي (زكي طليمات) و(أنور وجدي) في حفلة كانت مدعوة ليها وغنت أغنية “يا طول عذابي”.
(زكي طليمات) إندهش من جرأتها وأُعجب بعذوبة صوتها فقرر يديها دور البطولة في أوبريت “العشرة الطيبة” وقد كان سنة 1947 وحضرت أم كلثوم ذات نفسها حفل الإفتتاح وأُعجبت بصوتها وأثنت عليها. شهرزاد ما اكتفتش بثناء أم كلثوم وقررت إنها تدعم موهبتها بدراسة الموسيقى فدرست الصولفيج في معهد الموسيقى العربية.
وحضرلها السنباطي بعد كدا عرض تاني للأوبريت وأُعجب طبعا بصوتها وبعد إنتهاء العرض راحتله فأثنى عليها.
طلبت شهرزاد من السنباطي وقتها يلحنلها أغنية لإمتحان الإذاعة ووافق ولحنلها غنوة “أول ما جيت في الميعاد” سنة 1952 ولمع بعدها إسم شهرزاد وانطلقت في مشوارها ومشروعها الإبداعي وإشتغلت مع ألمع المسيقيين أمثال عبد الوهاب، بليغ حمدي، كمال الطويل، الموجي…وغيرهم كتير.
[youtube https://www.youtube.com/watch?v=m8TVuM_lSDE?rel=0&w=560&h=315]الكلام عن شهرزاد ومشوارها مش ممكن يكفِّيه مجرد مقال، ده مشوار يستحق يتوثق بفيلم سينمائي لكن طبعا الإنتاج في مصر مقتصر على الهلس وأكل العيش فمفيش توثيق لحياة عمالقة زي شهرزاد وكويس علشان لو اتعمل عنها حاجة أكيد هتكون بمستوى مسلسل أم كلثوم الركيك.
عموما شهرزاد بإخلاصها للفن ولمهنتها أثَّرِت في شخصية حفيدتها (هبة) إللى كِبرت على إيد جدتها وكانت معجونة بشخصيتها لدرجة إنها رفضت كل أفكار أبوها (يسري رمزي) إللى أعلن توبته وقرر ينهي مشواره الفني وينضم لحياة التقوى والإيمان، هبة قاومت أفكاره ودرست الإخراج في معهد السينما وأول تجربة ليها كان مشروع التخرج في تالتة معهد فيلم “المهنة إمرأة” وفي نهاية دراستها للمعهد قدمت فيلم “عشق آخر” إللي بتحكي فيه عن نفسها وتأثرها بجدتها المطربة(شهرزاد) الفيلم إتعرض في مهرجان أفلام ساقية الصاوي، أخد جايزة لجنة التحكيم وكان بدايتها الحقيقية.
[youtube https://www.youtube.com/watch?v=IrfESy6eGqE?rel=0&w=560&h=315]
ولإن الطيور على أشكالها تقع إتعرفت هبة يسري على مبدعة تانية وهي المخرجة (أيتن أمين) وإدتها دور في فيلمها “فيلا 69”.
(أيتن أمين) بكالريوس تجارة إنجليزي كانت شغوفة بالسينما لكن زي غالب المبدعيين واجهت صعوبات.
في البداية كانت بتشتغل محاسبة في بنك وحاولت تدرس أكتر من مرة ولظروف خارجة عن إرادتها كانت بتفشل فِضلت تحاول لحد ما جَت الفُرصة لما قرأت في الجورنال خبر إن الجامعة الأمريكية عاملة دورة “ART LAP” وهي دراسة لمدة سنتين إتخصصت أيتن خلالها في الإخراج وقدمت فيلمين تسجيليين عن الفنانة (مديحة كامل) وعن تاريخ الرقص الشرقي. لكن أول مشروع حقيقي ليها حقق صدا كان فيلم “راجلها” بطولة (سلمى غريب) عن قصة بنفس الإسم للروائية المصرية (أهداف سويف)، فيلم أعلنت فيه عن نفسها كمخرجة متمكنة من أدواتها وجريئة في طرحها وبعدها كانت الإنطلاقة بسلسلة من الأفلام اللي أكدت من خلالها مكانتها كمبدعة زي فيلم “انا عارف هي مين” وبتسرد من خلاله معاناة مرضى الزهايمر وصولا لفيلم “فيلا 69” بطولة (خالد أبو النجا) و (أروى جودة).
[youtube https://www.youtube.com/watch?v=wuvWEQRu7Oc?rel=0&w=560&h=315]أيتن أمين شاركت في ثورة 25 يناير 2011 وبالطبع أدلت بدلوها كمخرجة من خلال فيلم “الطيب والشرس والسياسي”.
[youtube https://www.youtube.com/watch?v=FGz2BYKyeHw?rel=0&w=560&h=315]نيجي للمخرجة التالتة (نادين خان) بنت المخرج العبقري (محمد خان) وزي ما المثل بيقول “إبن الوِز عوّام”.
نادين إتخرجت من معهد السينما 2001، وقدمت الفيلم القصير “رؤية” و فيلم “بلاد لها العجب” إللي حصد جايزتين في مهرجان مالمو للسينما العربية وإشتغلت طبعا مع محمد خان كمساعدة وشِربت الصَنعة منه وأثبتت نفسها وتركت بصمتها في رأيي المتواضع في مسلسل “سابع جار” مع زميلاتها.
إذن التلاتة بينتموا لمدرسة محمد خان الواقعية ومتأثرين بيها جدا وده واضح في المسلسل اللي إشتركوا في إخراجه ولحسن الحظ انهم اجتمعوا مع بعض في النهاية علشان نشوف عمل راقي بيحترم عقل المُتلقي وبيقدم دراما عائلية واقعية.
المسلسل بيناقش بجدية الشرخ الإجتماعي الطافي على السطح وبيحيل كل شئ إستجد وأصبح راسخ في ذهن الشباب اللي عاصروا أحداث الثورة، لنقاش مجتمعي واسع، وفي وقت قصير أصبح المسلسل الأكثر مشاهدة على يوتيوب.
25 يناير 2011 والأحداث إللي مصر كلها مرت بيها تباعا خلال التلات أو الأربع سنين إللي بعد التاريخ سالف الذكر، نجحت بلا شك في إنها تسيب بصمة وتحقق تحول إجتماعي كبير من خلال الأفكار الصادمة إللي طُرحت في الفترة دي وكان لازم يحصل نقاش مجتمعي واسع وده للأسف محصلش والدولة والقائمين على الفن بيتعاملوا مع الموضوع وكأن شيئا لم يكن.
جيل المراهقين والشباب إللي عاصروا الأحداث في عهد المجلس العسكري ومن ثَم الإخوان، وإللي إنضموا لموجة التمرد على السائد، نقلوا كل الأفكار الجديدة والصادمة لبلادهم وبيوتهم في ربوع مصر وطبعا إنتشار الهواتف الذكية ومواقع التواصل كان ليها وقع السحر في تسهيل العملية دي وإحداث التغيير، والحركة النشطة لمنظمات المجتمع المدني وقتها وروايح الحرية إللي كانت بتهفهف من الصحف وليدة الحدث والمصطلحات الجديدة نسبيا إللي إنتشرت في الأرياف قبل المُدن وبين الشيب قبل الشباب، شَهِّلِت مواجهة محتومة بين جيلين ما بينهم هُوَّة ضخمة في طريقة التفكير وحتى التعبير.
جيل ثورة الإتصالات والتكنولوجيا الحديثة وجيل جوابات البوسطة، جيل الوايرليس والروبوتس في مواجهة جيل السلك والتليفون أبوقرص، جيل العولمة إللي بينتفض علشان يزيل غبار التخلف من على مُخه في محاولة بائسة لمواكبة التطور الغربي في مواجهة جيل العادة والتكافل والتواكل والتموين، جيل طَموح بيصطدم بجيل خايف من أي تغيير، جيل عنده أمل رغم قِلة خبرته وجيل من كتر التجارب اتبرمج على الخوف من أي حلم و واقف صنديد في وش أي محاولة للحلم ببكرة مختلف.
ده بالإضافة للأفكار الجديدة إللي انتشرت بشكل واسع بين الشباب عموما وطلاب الجامعات خصوصا وإللي اعتنقها وآمن بيها قطاع كبير من الشباب، منهم إللي اعتنق أفكار محافظة ومنهم إللي اعتنق أفكار متحررة ومنهم اللي اعتنق أفكار مترددة تكون متطرفة، وبرضو كانت المواجهة بينهم حتمية وغاية في الدموية.
كلها أحداث هتتأرخ كانت سبب في شرخ إجتماعي ومش ممكن تتمحي بمجرد هدم سور الجامعة الأمريكية أو إنه يتم التعامل مع الأمر وكأنه لم يحدث.
كل إللي مرينا بيه ده كان مجرد بداية مش حتندفن في طرفة عين ولا حتى في سنين ولازم يحصل نقاش مجتمعي محايد حوالين النتائج وأعتقد إن الفن هو أقصر الطرق لطرح النقاش ده.
“سابع جار” هو السهل الممتنع،فبرغم بساطته إلا إنه معمول بحرفية واتقان شديد و واقعية تحس فيها بروح (خان).
الموسيقى التصويرية بتيجي في وقتها بالظبط مش عمّال على بطّال، خصوصا المشاهد الدرامية بيسيبوا الإحساس يوصل زي ما هو بدون أي عوامل مؤثرة وده إختبار قوي لأي ممثل يستحق الشغلانة دي وأغلبهم في رأيي نجحوا في الإختبار ده، المسلسل كمان بيناقش قضايا لأول مرة حد يَجرؤ على طرحها في الدراما المصرية زي قضية زواج المسيار أو إستقلالية المرأة أو الأم العزباء أو الإجهاض، عمل فني بيطرح كل المواضيع الشائكة بشكل سلس وبسيط والنتيجة الطبيعية هي انه اتوقف علشان يتعدل طبعا، وانا معتقدش انه هيطرح مواضيعه بنفس الجُرأة مرة تانية برغم إني في إنتظار الجزء التاني بفارغ الصبر وبمني نفسي إنه يفضل بنفس المستوى.
على كُلٍّ (هبة يسرى، آيتن أمين ونادين خان) هُنَّ ثلاث مغامرات إستحققن وبكل جدارة تحية إجلال وتقدير وعِرفان من واحد من ملايين المشاهدين اللي استمتعوا بالعمل الفني البديع ده.
شكرا سابع جار