مُتَشبثونَ بِطرَفِ جِلبابِك ليلَ نهار؟ يَطُوفُونَ حَولَكِ طَوالَ اليومِ ويُراقِبونَ مَواضِعَ مَجلِسِكِ ليَنْصِبُوا ضَجِيجَهُم إلى جوارِك؟ يُريدونَكِ دومًا في كاملِ التركيزِ مَعَهم في لَعِبِهِم وحَكاياهم وحتى شِجارِهم؟ يَطلُبونَ صَراحَةً كلَّ اهتمامِكِ إنْ شَرَدتِ عَنهم قليلًا؟ يحزنونَ إذا نِمتِ ساعةً من نهارِ فلا يتركونَ أحلامَكِ المطمَئِنةَ تَخطِفُ بَهجَةَ أوقاتِهم وفاكهةَ أيامِهم؟
ويخنُقُكِ هذا كثيرًا ويُشعِرُكِ أحيانًا وكأنكِ تتنفسينَ بصعوبَةٍ من سَمِ الخِياطِ، وربما تَرَجرَجَتْ دَمعةٌ في مُقلتَيكِ فألجَمتِها وابتلَعَها جَوفُكِ في صَمتٍ حزينٍ وشُرودٍ مُحبَطٍ، لأنك تحلُمينَ بإنجازِ أمورٍ ومَهماتٍ كثيرةٍ تَخصُ مساحاتِكِ الشخصيةِ التي تُشبِعِينَ فيها مُتعَتَكِ الخاصَّة، بعيدًا عن مَسؤولياتِ الأبناءِ المُستَنزِفةِ لكلِّ الوقتِ والجُهدِ والتركيز، وتتمنِينَ لو أنكِ خَلَوتِ بنفسِكِ قليلًا في مكانٍ هاديءٍ مُريحٍ للأعصابِ خالٍ من التوتر والمطارداتِ الدؤوبة، عامرٍ بمزاولةِ المُتَعِ البسيطة، وارتشافِ الكُتُبِ في سَكينة، أو قراءةِ القرآنِ على مُكثٍ، أو التلذُذِ بموعدٍ مع النورِ عز وجل في جَوفِ الظلامِ قِيامًا بجسدٍ لم تُنهِكْهُ مَهَمَّاتُ يومٍ مُتَكَدِّسٍ بالصَّخَبِ والنَّصَب؟
من قبلُ كانتْ خديجةُ مِثلَكِ، أمُّ البنينَ والبناتِ السِّتة، ولم يمنعْها ذلكَ من مُعاونةِ النبيِ ﷺ بكلِ ما أُوتِيَتْ من قُوّةٍ في دَعمِ دَعَوتِهِ والذبِّ عنها، وأبناؤها بَعْدُ صِغارٌ ملتصقونَ بجِلبابِها، فكانتْ السَّكنَ والمَلاذَ الآمِنَ المريحَ له ولأولادِهِما، رُغمَ نَصَبِ التربيةِ وصَخَبِ الصغارِ ومَشَقَّةِ المسؤوليات..
فإذا كان رَبُّ خديجةَ قد بشَّرَها على لسانِ جبريلَ ببيتٍ في الجَنةِ، من لؤلؤٍ مُجَوَّفٍ وياقُوت، لا تَعَبَ فيه ولا صَخَبَ ولا ضَجِيجَ ولا إزعاج، فأبشري كذلكَ يا حفيدةَ خديجةَ بفضلِ ربٍّ كريم، فكما جاء في شروح الحديث، هذا رزقُ أهلِ الجنة كافَّة وليس شرطًا أن يكونَ خاصًّا بخديجةَ فقط، وإنما قد بُشِّرَتْ في الدنيا بذلكَ البيتِ الهانيء لسُرعَةِ استجابتِها بالإيمانِ مع رسولِه ﷺ دون أن تُحوِجَه إلى رفْعِ صَوتٍ ولا مُنازَعَةٍ ولا إرهاقَ ولا صَخَب، بلْ أزالَتْ عنه كلَّ نَصَبٍ، وآنسَتْهُ مِن كلِّ وَحشَةٍ وتَعَب، وهوَّنَتْ عليه كُلَّ عَسيرٍ، فناسَبَ أن يكونَ منزلُها بالصفةِ المقابلةِ لكل ذلك..
فتذكَّرِي جِدَّها وتفانِيها وانطلاقَها كالسهمِ في دَعمِ دِينِ اللهِ، بينما في طرفِ جِلبابِها سِّتةٌ صِغار، فيَهُونُ عليكِ أمرُكِ ومَشاغلُكِ ومُتَعُكِ..
وادعي لنفسكِ جزاءَ صبرِكِ على كلِ ذلكَ الصخَب والتعب، ببيتٍ في الجنةِ من ياقوتٍ وقَصَب لا نَصَبَ فيه ولا صَخَب..
وإن كنتِ أحيانا تنسَين أو لا تعرفِين، حَجمَ كَنزِ الأمومةِ في الإسلام..
فدعيني أنثرْ عليكِ لؤلتينِ منهُ فقط لضيقِ المقام..
اللؤلؤةُ الأُولى:
عن الإمامِ بِشْرِ الحافِي الزاهدِ الوَرِعِ التَّقِيِّ…
فرُغمَ زُهدِهِ الشديدِ وتَفَرُّغِهِ للعبادةِ وتشَبُّعِهِ بالوَرَعِ لدرجةِ خشيتِهِ من الزواجِ لئلا يُقَصِّرَ في حقِ زوجتِهِ ورَعِيتِهِ، وربما خَشِيَ من التقصِيرِ في العبادة لشدة وَرِعِه، حتى صارَ نَمُوذجًا للعابدِ المُتَرَقِّي في درجاتِ التقوَىِ والذي يَرجُو الجميعُ أن يكونُوه، إلا أنهُ عِندَ وفاتِه قال عنهُ الإمامُ أحمدُ بنُ حنبل:
“لو كان تَزَوَّجَ! فلو أنه تزوجَ لَتَمّ أمرُه”.. لِعلمِ إمامِ السُّنّةِ الفقيهِ الحكيم، أن مَهَمةَ إنباتِ قلوبٍ مُسلمةٍ تَسجُدُ للهِ في أرضِه إلى يوم القيامة، إنما هو مِن معالِي الأمورِ وأعظمِ العبادات..
فاستحضِرِي دومًا أن تمامَ أمرَكِ عندَ ربِكِ هو بما اصطفاكِ لهُ من الأمومةِ بإذنِ الله، مهما نَقَصَتْ سائرُ أمورِكِ الأُخرى ومساحاتُكِ الخاصةُ وحزِنتِ لذلك، فربُكِ كريمٌ جبار، وما تقدموا لأنفسكم مِن خيرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ هو خيرًا وأعظمَ أجرًا..
واللؤلؤةُ الثانيةُ عن ابنِ عُمَر:
أنَّه رأى رجلًا في الطوافِ يحمِلُ أمَّه على ظهرِهِ وهو يُثنِي على فَضلِها عَلَيهِ منذ كان رَضِيعًا، ثم سألَه: هل تَظُنُّنِي جازيْتُها يا ابنَ عُمر؟ فقال: لا..! ولا زفرةً واحدةً.!
فيا أيتها الأمُ الحاضنةُ الكريمة:
أمومتُكِ في الإسلامِ كَنزٌ.. فاغترِفِي بسخاء ولا تبخَلِي على نفسِك..
فكلُّ ما تَفعلينَهُ لولدِكِ لهُ أجر.. وكلُّ ما يُصيبُكِ فيهِ لهُ أجر.. وكلُّ ما تصبِرِينَ عليهِ مَعَهُ لهُ أجر..
فاصبري على صَخَبِ أبنائِك وتَعَبِ طريقِ التربيةِ على مَرضاةِ الله، وجاهِدِي في الجَمعِ بينَ معالِي الأمورِ كلِّها مثلَ خديجة..
فإن عَجَزْتِ، فيَكفيكِ من الأمومةِ أجرًا وشَرَفًا، أنَّكِ مَضرِبُ المثَلِ في المَرحمَة، مِن اللهِ ورسولِه ﷺ ، فحين يُرادُ شَرحُ مَدَى سِعَةِ رحمتِهِ سبحانَهُ بمثالٍ يستوعبُهُ الناسُ،
لا يُؤتَى إلا بــ “رحمةِ الأم” التي تَنعَقِدُ عليها كلَّ مرةٍ المُقارَنةُ في الأمثلةِ النبويةِ الحكيمة: “للهُ أرحَمُ بكم مِن هَذِهِ بوَلَدِها”..
فاصبري.. وأبشِري..
فالأمومةُ تستحقُ، لأنك تصنعينَ بِها المُسلمَ السَّوِيَّ الصالحَ المُصلِح..
ولأجل ذلكَ اقترنَ بِرُّ الوالدينِ بعبوديةِ اللهِ…
كما سنرى في القاعدة القادمةِ إن شاء الله..