الشتاء ربيع المؤمنين…
لله في آفاق الكون آياتُ كمالٍ وتجلِّياتُ جمالٍ، تظهر دوماً لتُرْشدَ المتحيِّرَ وتهدي الضالَّ وتُزَكِّي إيمانَ المؤمنين.
وتتردد آثارها في منظومةٍ كونيَّةٍ مُبْهِرَةٍ تخطفُ الألبابَ وتجذِبُ العقولَ وتزيدُ القريبَ تلطفاً والشاردَ تآلفاً، إنه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88].
ومن تجلياتِ القُدْرةِ وطلاقَتِهَا تَنوعُ الفصولِ وتغيُّرُ معالمِ الحياةِ بين الحرارة والبرودة واليبوسة والنعيم المؤقَّتِ في الربيع.
وذلك يتطلبُ من المؤمنِ أن يكونَ ذا بصرٍ ثاقبٍ في بابِ التدبِّرِ والاستفادةِ من هذه الآيات، فقد أنكر الله من العباد إعراضهم عن آياته، قال الله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105].
وفصلُ الشتاء من بين الفصول له معالمه وآياته الدالة عليه من برودةٍ ومطرِ وقصرِ في النهار وطولٍ في الليل، وهذا ما عناه حديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال: «الشِّتاءُ ربيعُ المؤمنِ، طالَ ليلُه فقامَه، وقصُرَ نَهارُه فصامَه» (الزرقاني في مختصر المقاصد 553 وقال: حديثٌ حسنٌ عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله تعالى عنه).
ومن فضائل فصل الشتاء أنه يذكر بزمهرير جهنم والعياذ بالله فيزداد إيمان المؤمنين، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «اشتكتِ النَّارُ إلى ربِّها فقالت: يا ربِّ أكَل بعضي بعضًا فنفِّسْني فجعَل لها في كلِّ عامٍ نفَسَيْنِ في الشِّتاءِ والصَّيفِ فشدَّةُ البردِ الَّذي تجِدونَه مِن زَمْهريرِها وشِدَّةُ الحرِّ الَّذي تجِدونَ مِن حرِّ جَهنَّمَ» (صحيح ابن حبان 7466).عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه،
أما عن التخويف من الشتاء فقد “كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا حضر الشتاء تعاهدهم وكتب لهم بالوصية: إن الشتاء قد حضر وهو عدوٌ فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب واتخذوا الصوف شعاراً ودثاراً فإن البرد عدوٌ سريعٌ دخوله بعيدٌ خروجه، ومن لطائف القرآن في التخويف من الشتاء أن بعضهم قالوا: إن الله تعالى قد وصف الجنة بصفة الصيف لا بصفة الشتاء فقال: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} [الواقعة 28: 32]” (الإمام ابن رجب الحنبلي / لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص440/ تحقيق عبد الله عامر / ط1 / 2005م دار الحديث للطبع والنشر / القاهرة).
ومع ذلك فالشتاء في ذرا الإيمان ربيعٌ ومغنمٌ من بدائع الطاعات والقربات: [وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش فإن نهاره قصيرٌ باردٌ فلا يحس فيه بمشقة الصيام، وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة، فيقرأ المصلي ورده كله من القرآن وقد أخذت نفسه حظها من النوم فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه مع إدراك ورده من القرآن فيكمل له مصلحة دينه وراحة بدنه.
ومن كلام يحيي بن معاذ: الليل طويلٌ فلا تقصره بمنامك، وعن عبيد الله بن عمير أنه كان إذا جاء الشتاء قال: يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا وقصر نهاركم لصيامكم فصوموا] (لطائف المعارف ص 435 “سابق”).
فضل قيام ليالي الشتاء:
وقد تنعَّمَ كثيرٌ من العُبَّادِ في ليالي فصل الشتاء بمزيد المناجاة والتلاوة والذكر والفكر بقيام الليل، ذلك لأن للقرآن في الليل بالذات سبحاً قوياً وطويلاً في باب التدبر وتربية الأرواح، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (الصِّيامُ و القرآنُ يَشْفَعَانِ للعبدِ يومَ القيامةِ، يقولُ: الصِّيامُ: أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ و الشهوةَ فشفعْني فيهِ، و يقولُ القرآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِالليلِ فَشَفِّعْنِي فيهِ، قال: فيشفعانِ) (الألباني في صحيح الترغيب 984 وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما)، وعلى ذلك فأقوى آثار تربية النفوس بالقرآن تكون ليليّة كما أن هداية الصوم نهاريّة.
وفي ليالي الشتاء بالذات كان للصحابة والعلماء والعُبَّادِ جهدٌ مباركٌ وترتيبٌ هامٌّ ومغانم غير متروكةٍ فلم يفارقوا هذا الفضل أبداً، ولهذا فقد [بكى معاذ عند موته وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر، وكان صفوان بن سليم يصلي بالليل في الشتاء في السطح وفي الصيف في بطن البيت يتقيظ بالحر وبالبرد حتى يصبح ثم يقول: هذا الجهد من صفوان وأنت به أعلم وغنه لترم رجلاه حتى يعود مثل السقط من قيام الليل ثم يظهر فيها عروقٌ خضرٌ، وكان صفوان وغيره يصلون في الشتاء بالليل بثوبٍ واحدٍ ليمنعهم البرد من النوم، ومنهم من كان إذا نعس ألقى بنفسه في الماء ويقول: هذا أهون من صديد جهنم] (لطائف المعارف ص436:438 بانتقاء”سابق”).
والتطهر بالوضوء في ليالي الشتاء الباردة له أجزل الأجر وأكرم المثوبة، قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «ألا أدلُكم على ما يمحو اللهُ بهِ الخطايا ويرفعُ بهِ الدرجاتِ» ؟ قالوا: بلى. يا رسولَ اللهِ قال «إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ. وكثرةُ الخطا إلى المساجِدِ. وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ. فذلكمْ الرباطُ» وليس في حديثِ شعبةَ ذكر الرباطِ. وفي حديث مالكٍ ثنتَينِ فذلكمُ «الرِّباطِ. فذلكمُ الرِّباطِ» (صحيح مسلم 251عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه)، ومن مكاره الإسباغ في الوضوء شدة البرد في ليل الشتاء أو ضيق الأثواب.
وعن عبد الله بن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني اللَّيلةَ آتٍ من ربِّي» وفي روايةٍ «رأيتُ ربِّي في أحسَنِ صورةٍ فقالَ لي يا مُحمَّدُ، قُلتُ: لبَّيكَ وسَعديكَ، قالَ: هل تدري فيمَ يختصمُ الملأُ الأعلى قُلتُ لا أعلَمُ فوضعَ يدَه بينَ كتفيَّ حتى وجدتُ بردَها بينَ ثدييَّ أو قال في نَحري فعَلِمْتُ ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ أو قال ما بين المشرقِ والمغرِبِ قال يا محمَّدُ أتدري فيمَ يختَصِمُ الملأُ الأعلَى قلتُ نعَم في الدَّرجاتِ والكفَّاراتِ ونقلِ الأقدامِ إلى الجماعاتِ وإسباغِ الوضوءِ في السَّبراتِ ” [شدة البرد] ” وانتظارِ الصَّلاةِ بعد الصَّلاةِ ومن حافظ عليهنَّ عاشَ بخيرٍ وماتَ بخيرٍ وكان مِن ذنوبِهِ كيومِ ولدتهُ أمُّهُ قال يا محمَّدُ قلت لبيكَ وسعديكَ فقالَ إذا صلَّيتَ قل اللَّهمَّ إني أسألُكَ فعلَ الخيراتِ وتركَ المنكراتِ وحبَّ المساكينِ وإذا أردتَ بعبادِكَ فتنةً فاقبِضني إليكَ غيرَ مفتونٍ قال والدَّرجاتُ إفشاءُ السلامِ وإطعامُ الطَّعامِ والصلاةُ بالليلِ والناسُ نيامٌ» (الى منذري في الترغيب والترهيب 1/200 وقال: إسناده حسنٌ أو صحيحٌ أو ما يقاربهما).
ومن الأعمال الصالحة الميسورة في الشتاء الصيام باعتباره في الصيف شدة معاناة من العطش وطول النهار، فعن عامر بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة» (سنن البيهقي 8237 والحديث مرسل).
ومن رجاء الصحابة الكرام في استحواذ الأجر العالي بمشقة الجهاد في الليالي الشاتية والباردة ما جاء عن سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه يعبر عن منتهى آماله وهو يجود بروحه فيقول: [وما من ليلة يُهدى إلي فيها عروس أنا لها محب أحب إلي من ليلة شديدة البرد، كثيرة الجليد في سرية أصبح فيها العدو] (محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي / سير أعلام النبلاء ص 366 / ج1 / مؤسسة الرسالة 2001م).
♦ ♦ ♦
وفي الشتاء تجليات القدرة المبهرة من حدوث الآيات الكونية الدالَّةِ على كمال الربوبية للخالق الأعظم حيث يتجلى على عباده بآيات الكمال والجمال، فالمطر حياة الأرض وبهجتها حيث تزهر بعده وتثمر وتخرج طيباتها للعباد قال الله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج من الآية 5]، وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28].
ومن بدائع القدرة ولطائف الخلاق العليم أن اقتضت حكمته عز وجل [أن سقى الأرض من فوقها فينشئ سبحانه السحاب وهي روايا الأرض ثم يرسل الرياح فتحمل الماء من البحر وتلقحها به كما يلقح الفحل الأنثى لهذا تجد البلاد القريبة من البحر كثيرة الأمطار وإذا بعدت عن البحر قل مطرها] ( ابن القيم / مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة 231:/232 ج1ط2 / 2002م / دار الكتب العلمية / بيروت).
وعملية نزول المطر تمر بخاطر وناظر من يتابعها ويراها سهلةً وكأنها بسيطةٌ، والحقيقة أنها معقدة جداً وتمر بمراحل متتابعةً من التلقيح بعد التجمع في جو السماء ويسلط الله تعالى عليه البَرَدَ حيث ينزل من جبالٍ علويةٍ فيثقل ويبدأ النزول إلى الأرض في دقةٍ محكمة يسقي به الزرع ويصلح به حال العباد، قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9-11]، وقال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} [الفرقان: 48-49].
وقد دعا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم حال الغيث بأن يكون نعمة ورحمة لا عذاباً وخراباً، فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رجلاً دخل يوم الجمعة من باب كان وجاه المنبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً، فقال: يا رسول الله، هلكت المواشي، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا. قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه فقال: [«اللهم اسقينا اللهم اسقنا اللهم اسقنا». قال أنس: لا والله، ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة، ولا شيئا، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال: والله ما رأينا الشمس ستا. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها. قال: فرفع رسول الله يديه، ثم قال: «اللهم حولينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال، والآجام والظراب، والأودية ومنابت الشجر». قال: فانقطعت، وخرجنا نمشي في الشمس]. (صحيح البخاري كتاب الإستسقاء 5 /967)،
وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنها قالت ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا. حتى أرى منه لهواته. إنما كان يبتسم. قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحا، عرف ذلك في وجهه. فقالت: يا رسول الله أرى الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية؟ قالت فقال: ” «يا عائشة! ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب. قد عذب قوم بالريح. وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا» “.( صحيح مسلم899)، وكان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يبلل المطر بعض بدنه لطهرة الماء ولأنه قريب عهدٍ بالله تعالى، قال أنس بن مالكٍ رضي الله تعالى عنه: (أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر. قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه. حتى أصابه من المطر. فقلنا: يا رسول الله! لم صنعت هذا؟ قال: ” «لأنه حديثُ عَهْدٍ بربِّهِ تعالى» “. (صحيح مسلم898).
ومن رحمة الله الرحيم بعباده ما يُحَدِّثُ عنه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بقوله: «قالَ ربُّكم عزَّ وجلَّ: لَو أنَّ عبادي أطاعوني لأسقَيتُهُمُ المطرَ باللَّيلِ وأطلعتُ عليهمُ الشَّمسَ بالنَّهارِ ولما أسمعتُهُم صَوتَ الرَّعدِ» (أحمد شاكر في مسند أحمد 16/288وقال: إسناده حسن عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه).
♦ ♦ ♦
ومن الآيات الكونية في فصل الشتاء البرقُ والرعْدُ وهما من جنود الله رب العالمين، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} [النور: 43].
والبرق وهو من الآيات الكونية الدالة على طلاقة القدرة لربنا الكبير المتعال وكذلك الرعد، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد: 12، 13].
وذكر الإمام القرطبي في تفسيره [عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة العامريان يريدان النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد جالس في نفر من أصحابه فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور وكان من أجمل الناس فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: هذا يا رسول الله عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك فقال: دعه فإن يرد الله به خيرا يهده، فأقبل حتى قام عليه فقال: يا محمد مالي إن أسلمت؟ فقال: «لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين» . قال: أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال: «ليس ذاك إلي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء» . قال: أفتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ قال: «لا» . قال: فما تجعل لي؟ قال: «أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها في سبيل الله» .
قال: أو ليس لي أعنة الخيل اليوم؟ قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عامر أومأ إلى أربد: إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه واضربه بالسيف، فجعل يخاصم النبي صلى الله عليه وسلم ويراجعه فاخترط أربد من سيفه شبرا ثم حبسه الله فلم يقدر على سله ويبست يده على سيفه وأرسل الله عليه صاعقةً في يومٍ صائفٍ صاحٍ فأحرقته وولى عامر هاربا وقال: يا محمد دعوت ربك على أربد حتى قتلته والله لأملأنها عليك خيلا جرداً وفتياناً مرداً.
فقال عليه السلام: «يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة» يعني الأوس والخزرج. فنزل عامر بيت امرأة سلولية وأصبح وهو يقول: والله لئن أصحر لي محمد وصاحبه – يريد ملك الموت – لأنفذتهما برمحي؛ فأرسل الله ملكا فلطمه بجناحه فأذراه في التراب وخرجت على ركبته غدة عظيمة في الوقت فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية ثم ركب على فرسه فمات على ظهره] (الإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي / الجامع لأحكام القرآن بتحقيق هشام سمير البخاري/ الآيتان 11:13 سورة الرعد /ط1 /2003م دار عالم الكتب / الرياض).
وذكْرُ الله تعالى والدعاءُ هو حماية المؤمن في البرق والرعد، فعن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: (كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ إذا سمع الرعدَ والصواعقَ قال «اللهمَّ لا تقتلْنا بغضبِك ولا تهلكْنا بعذابِك وعافِنا قبلَ ذلك» (أحمد شاكر في مسند أحمد 8/98 وقال: إسناده صحيحٌ).
ومن ظواهر فصل الشتاء الريحُ وهي جندي من جنود الله فلا ينبغي أن توصف إلا بخير قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا رأَى الرِّيحَ قالَ «اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ مِن خَيرِها وخَيرِ ما فيها وخَيرِ ما أُرْسِلَت بِهِ وأعوذُ بِكَ مِن شرِّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرْسِلَت بِهِ» (الألباني في صحيح الترمذي 3449 وقال: حديثٌ صحيحٌ)، ومن خطأ بعض الناس أنهم يسبون الريح إذا ثارت وهذا منهي عنه، فعن أبي بن كعبٍ رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسُبُّوا الرِّيحَ فإنَّها من رُوحِ اللهِ، وسلُوا اللهَ خيرَها، وخيرَ ما فيها، و خيرَ ما أُرسِلَتْ بهِ، وتعوَّذُوا باللهِ من شرِّها، و شرِّ ما فيها، وشرِّ ما أُرسِلَتْ بهِ» (الألباني في صحيح الجامع 7317 وقال: حديثٌ صحيحٌ).
وأخيراً:
فالمؤمن متناغمٌ مع الكون كله في فصل الشتاء وسائر الفصول لأنه من العابدين والخاشعين لجلال الله رب العالمين، ولهذا؛ يجب أن يظهر الفرق بين المسلم وغيره بلزوم ذكر الله تعالى مع توثب الريح حينما تبدو عقيماً، ومع هبوب الرياح بين مرسلاتٍ وذارياتٍ ولواقح، وعندما يسمع الرعد أو يرى البرق لتدور مشاعره بين الخوف من عذاب الله والطمع في رحمة الله، وعندما ينزل المطر صيباً نافعاً للخلق في معايشهم أو يكون نقمةً وعذاباً.
وما أحلى أن يدور الناظر والخاطر مع الأفلاك في سريانها تأملاً متمعِّناً لإِحْكَامِ الصنعة الربانية وتنوعِ أصناف الإبداع الإلهي حتى ينالَ أسمى الحظوظِ من أرزاق الفهم بالعلم والمشاهدة والتدبر كما قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].
نسأل الله تعالى أن يمنحنا بركات العلم ونور البصائر.