ممنوعات2 (تابع) : ألم يدعُ النبيُّ ﷺ علَى بعضِ أهلِهِ والمُسلِمِين؟
فن الكتابة في الصفحة البيضاء..
وقفنا عند أسئلة:
-ألم يدعُ النبيُّ ﷺ على بعضِ أهلِه والمسلمين؟ ألم يقل لبعضِ صحابَتِه ” «ثَكِلَتْكَ أمُك» !” أيْ: “فَقدَتْكَ” أيْ: دعاءٌ بالموتِ كما نقولُ بالعامية “ربنا ياخدَك”؟
-وما الحلُ لمن دَعَتْ بالفعلِ على أولادِها وينهَشُها الخوفُ من إجابةِ اللهِ لدعائِها؟
-ومَن تابتْ وتجاهدُ ولكنْ لازالَ لسانُها يفلِتُ، ماذا تَفعَلُ؟
نبدأُ بالسؤالِ الأولِ..
أولًا… تلك الكلمةُ في لهجةِ العَرَبِ ليسَ معناها طلَبُ تَحَقُقِ الشيءِ وتمنِّي وُقوعِهِ، فليستْ دعاءً على أحدٍ بالموتِ حقيقةً -حتى وإن كان هذا معناها الحرفيُّ لُغَوِيًا..
إنما تُطلَقُ على سبيلِ العادةِ التي جَرَتْ بها ألسنةُ العَرَبِ آنذاك مِن وَصلِهم لكلامِهم دونَ قَصدٍ أو نِية، مثل: تربَتْ يَمينُك،/ ولا أشبَعَ اللهُ بَطنَك،/ ولا كَبِرَ سِنُك، وغيرهم…
قال النوويُّ في شرحِ صحيحِ مُسلم :
“وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا كَلِمَةٌ اعتادتْ الْعَرَبُ اِسْتِعْمَالهَا غَيْرُ قَاصِدَةٍ حَقِيقَةَ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ، فَيقولون: تَرِبَتْ يَدَاك، وَقَاتَلَهُ اللَّهُ مَا أَشْجَعَهُ! وَلَا أُمَّ لَهُ وَلَا أَبَ لَك، وَثَكِلَتْهُ أُمُّه، وَوَيْلَ أُمِّهِ….. وَمَا شابَهَهُم مِنْ أَلْفَاظٍ يَقُولُونَهَا عِنْدَ إِنْكَارِ الشَّيْءِ، أَوْ الزَّجْرِ عَنْهُ، أَوْ الذَّمِّ عَلَيْهِ، أَوْ اِسْتِعْظَامِه، أَوْ الْحَثِّ عَلَيْهِ، أَوْ الْإِعْجَابِ بِهِ”. انتهى كلامُه بتَصَرُّفٍ يَسِير.
وقد قالها ﷺ في مواقفٍ تَستَجلِبُ الدهشةَ.. مثلا:
*حين قال لإحدَى زوجاتِه «تَرِبَتْ يداكِ» حين تعجَّبَتْ مِن وُجودِ ماءٍ للمَرأةِ كالرجلِ..
*وحين قال: «لا كَبِرَ سِنُكِ!» لبنتِ أمِ سُلَيمٍ الصغيرةِ اليتيمة! حيث رآها ﷺ يومًا بعدما كَبُرِتْ قليلًا، فاندهشَ وقالَ لها مُتَعَجِّبًا: «أنتِ هِي؟ كَبُرْتِ..! لا كَبِرَ سِنُكِ!»… مثلما يُقالُ ربما -واللهُ أعلمُ- بالعاميةِ المصريةِ دونَ قصدٍ الدعاءِ: “يُقصُفْ عُمرَك عَملتَها إزاي دي!” أو “يِخَيِّبَك! صلحتها إزاي!” أو يا مَقصُوفِ الرقبة!…
فعادتْ اليتيمةُ إلى أمِها تبكِي مِن الخوفِ سبحانَ الله، فلما سألَتْها قالتْ: دعا علَيَّ النبيُّ ﷺ أن لا يَكبُرِ سِني أو قِرْنِي -أي أقرانِي وأشباهُ سِني..
فهَرَعَتْ أمُ سُليمٍ إليهِ على عَجلٍ تستَفهِمُ، فلما رآها وَجِلَةً قال: «مالَكِ يا أمَّ سُلَيم!؟»فقالت: يا نبيَّ اللهِ! أدعوتَ على يَتِيمَتِي؟ فتعجبَ وسألَها! فلما أخبرَتْهُ ضَحِكَ ﷺ.. ثم قال يُطَمئِنُها: «أما تَعلَمِينَ أنِّي اشتَرَطْتُ علَى ربِّي فقُلتُ: إنَّما أنا بشرٌ أرضَى كما يَرضَى البشرُ، وأغضَبُ كما يَغضَبُ البشرُ، فَأيُّما أحَدٍ دعَوتُ عليهِ مِن أُمَّتِي بِدَعوةٍ ليسَ لها بِأهلٍ، أنْ تجعلَها لهُ طَهُورًا وزكاةً وقُربةً يُقرِّبُهُ بها مِنهُ يومَ القيامةِ»(رواه مسلم)
كذلك قالَها ﷺ في مَواقِفَ تَستَوجِبُ الإنكارَ والاستِعظام… كما حَدَثَ حين سألَهُ سيدُنا مُعاذٌ مُتَعَجِّبًا: يا رسولَ اللهِ! أنؤاخَذُ بكلِّ ما نتكلمُ به؟.. فأجابه النبي ﷺ مُنَبِّهًا إياهُ مُندَهِشًا من السؤال: «ثَكِلَتْكَ أُمُكَ يا مُعاذ! وهلْ يُكَبُّ الناسُ على مَناخِرِهِم فِي جهنمَ إلا حصائِدُ ألسنتِهم!؟» (رواه الترمذي)
فكلُها مِن كلامِ العربِ الدارِجِ للتعبيرِ عن الدهشةِ ونحوِها.. وربما أَحَدُ معانِيها الذِي يتبادَرُ لذِهنِي مُباشرَةً، هو: التَنَبُؤُ بما سيَقَعُ في المستقبلِ لهذا الشخص. فكأنها باللغةِ البسيطةِ واللهُ أعلَم: “سَوفَ تَهْلَكُ يا فلانُ إن لمْ تَنتَبِهْ لكذا!”..
المهمُ أنها ليستْ للدعاءِ على أحدٍ كما يَفعلُ معظمُنا للأسفِ وقتَ الغضَب.. وإنَّما وقعُ هذا مِنهُ ﷺ نادِرًا؛ فلم يَكنْ فاحشًا ولا لعَّانًا لكنه فقط بَشرٌ..
ثانيًا… وحتى إذا صدَر منه ﷺ دعاءٌ على مُسلمٍ غيرُ كلامِ العَربِ الدارِجِ- وتَلَفَّظَ بهِ ﷺ في لحظةِ غَضبٍ بشريةٍ حقيقيةٍ عَفَوِيةٍ كذلكَ -لأنهُ بَشرٌ يَغضبُ مثلَنا كما يَصِفُ نفسه ﷺ:
• فيكونُ ذلكَ فِي مَوضِعٍ شَرعِيٍ تربويٍ مِحوَرِيٍّ جدًا يَستَوجِبُ الغضبَ لله.
• بالإضافةِ إلى أنه ﷺ يُرَمِّمُ ويَتَقِي عاقبَةَ تلكَ الغَضبةِ البشريةِ العفويةِ بِنفْسِ الحَلٍ الوِقائِيِّ المُستدَامِ الذي فعلَه فِي قصةِ أم سليم، بِقولِه: «اللهم إني أتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لَنْ تُخْلِفَنِيهِ، فَإنَّما أَنَا بَشَرٌ.. فَأَيُّ المُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ، شَتَمْتُهُ، لَعَنْتُهُ، جَلَدْتُهُ، فَاجْعَلْهَا لهُ صَلاةً وزَكاةً وقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِها إِلَيْكَ» فبذلك تُصِيبُ دعواتُه المنافقين وأمثالَهم فقط..
1*مثلما قال ﷺ يومًا لإحدَى زَوجاتِهِ«قَطَعَ اللهُ يدَكِ!».
والقصةُ كما تحكيها هي بنفسِها، أنها -رضي اللهً عنها- غَفَلَتْ عن أمرٍ عظيم استودَعَها ﷺ إياه، حيثُ كانَ ﷺ قد أحضَرَ أسيرًا لتَحبِسَهُ عندها في بيتِه، وأمرَها ألا تغفَلَ عنهُ فيهرُب.. فزارتْها صويحباتُها فانشَغَلَتْ بهِنَّ عنه فهرَب..
كافرٌ يحاربُ دينَ اللهِ ويؤذِي المسلمين، وَأُسِرَ بعدَ معاناةِ الحَربِ، ويحبِسُونَهُ غالبًا حتى تَتِمَّ مبادلتُهُ بأسرَى مُسلمين لدَى العدوِّ، أو ربما يأخذونَ فديةً عنهُ تُرَدُّ إلَى بيتِ مالِ المسلمين..
هذا الأسيرُ هَرَب من يَدِ المسلمين! لغفلةِ أمِّنا الفاضلةِ تلكَ عَنهُ بصويحِباتِها -رضي اللهُ عنها- فغضبَ النبيِّ ﷺ وقالَ لها: ” «قطعَ اللهُ يَدَكِ»
ولم يَقُلْها قبلَ سؤالِها والتَحَقُّقِ من السببِ أولًا وأنها غَيرُ مَعذورَةٍ فيما يَظهَرُ له…
ثم هي زوجتُه وليستْ ابنتَه أو أطفالًا لم يَبلُغُوا الحُلُمَ بعد…
فأين نحنُ من ذلك مع أبنائِنا….؟
لكن -ورغمَ كلِ ذلك- حينَ عادَ ﷺ مرةً أخرَى للبيتِ -بعدما أرسل الصحابةَ في ملاحقةِ الأسيرِ ووجدوه وأعادوه- ووجدَها مُتأَثِّرةً وخائفةً من الكلمةِ التي قالها لدرجةِ أنه وَجدَها قد مَدَتْ يديْها تُقَلِّبُ فيهما بقلقٍ تَتَرَقَّبُ أيتُهما تُقطَعُ، لأنها ليسَتْ مُعتادةً على ذلك مِنهُ ﷺ -هذا أولًا- ولأنها تَعلَمُ أن دعاءَهُ مُستجابٌ..
فبَشَّرَها ﷺ بالعهدِ والشرطِ الذي أخذَه مَعَ ربهِ فيما يَخُصُّ الدعاءَ على أحدٍ من أُمَّتِهِ.. فاطمأنَّتْ..
فأين نحنُ مِن ذلكَ، بما نفعلُهُ مَعَ أولادِنا؟
2*ومثالٌ آخَر لدعائه على أحدٍ في الغَضَب:
قالتْ عَائِشَةُ: دَخَل عَلَى رسولِ الله رَجُلانِ.. فكلَّماهُ بشَيءٍ لا أَدرِي ما هُو، فأَغْضَبَاهُ –
فلَعَنَهما وسبَّهما -(واللعنُ دعاءٌ بالطردِ من رحمة الله، وسيأتي كلامُنا عن السبِ في مَوضِعِهِ بإذنِ اللهِ)- فلمَّا خَرَجَا قالتْ له ما معناه أن هذين الرجلين قد حُرِما من الخير لا مَحالة..! فقال: «وما ذاك؟» قالت: لَعَنْتَهُما وسَبَبْتَهما! فقال ﷺ: «أوَما عَلِمْتِ ما شارَطتُّ عليه ربِّي؟ قلتُ: اللَّهُمَّ إنَّما أنا بَشَرٌ، فأيُّ المسلِمين لَعَنْتُه أو سَبَبْتُه فاجْعَلْه له زَكاةً وأجْرًا»
فالنبي ﷺ إذًا…
– قد يجتهدُ في الحُكمِ فيَظهر له ﷺ بِأَمَارَةٍ شَرْعِيَّة استحقاقُ أحد الناس للدعاء عليه لأنه منافقٌ مثلا، بينما هو عند الله قد لا يكون أَهْلًا لِذَلِكَ، فلأنه ﷺ لا يعلمُ الغيب يحكم بالظاهر وَاَللَّه يَتَوَلَّى السَّرَائِر..
– أو قد يَغضبُ عَفَوِيًّا كما يَغضَبُ البشرُ فيدعو كذلك على من لا يَستحقُ من أمَّتِه..
– أو قد يتَفَوه بدعاءٍ من كلامٍ العربِ الدارجِ غيرِ المقصود بعينهِ كدعاء…
فماذا فعل….؟
أمَّنَ واحتاطَ للمؤمنين من ذلك كلِه:
-بتفويضِ اللهِ في تحديدِ أهليةِ واستحقاقِ الشخصِ لدعائِهِ عليه من عدمِه،
-وتقريرِ مَن هو منافقٌ أهلٌ للدعاءِ عليه فتَصيبُه دعوتُه، ومن هوغيرُ أهلٍ لذلكَ وكان مسلمًا فتكونُ لَهُ طَهُورًا وقُربَةً..
-وقبل كل ذلك أمَّنَهُم بأن عَفَّ لسانَهُ عن تلكَ الأمور ابتداءً إلا نادرًا فهو بَشرٌ مثلُهم لكنه أكملُهم
-ثم لو تَتَّبَعْنا مواطنَها فلن نجِدَها إلا عندَ مواطِنِ الغَضَبِ لِحَقِّ اللهِ والناسِ، لا الغَضَبِ للنفسِ أو الدنيا.. قالت عنه عائشة:”ما انتقم لنفسه قطّ إلاَّ أن تُنتَهَكَ حرماتُ الله”..
لأنها ليستْ طبيعةَ لسانِهِ الشريفِ ولا قلبِهِ الرئيف، فقلبه لا يُبَيِّتُ رَغبِةً أبدًا في إيذاءٍ مُسلمٍ… فكيف بأهلِ بيتِه وأبنائِه….؟
بل ويحكي عن الأنبياءِ الرحماءِ مِن قبلِه، منهم نبيٌ قد ضَرَبَهُ قومه فأدمَوه فكان يمسح الدم عن وجهه ويقول: “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون..”
فأين نحن من كل ذلك مع أبنائنا قبل أن نسألَ ألم يَدْعُ النبيُّ على بعضِهم؟
ونأتي للسؤالِ الثاني الخاصِّ بالأمِ التي دَعَتْ على أولادِها وينهشُها الخوفُ الآنَ ِمن استجابةِ اللهِ للدعاءِ، وكلما حدثَ لهم مكروهٌ أنَّبَتْ نفسَها..
فكلُ ما عليها هو أن تتوبَ إلى اللهِ مما قالتْ وتستبدلَهُ بدعاءٍ لهم ليلَ نهارٍ، وتُشهِدُ اللهَ وتُشهِدُهُم أنها لا تَقصِدُ إيذاءَهُم، وتطلبُ منه سبحانَهُ أن يَجعلَ فَلَتَاتِ لِسانِها السابقةَ خيرًا لهم في حياتِهم وقُربَةً لَهم عندَه، وإذا حدَثَ لهم مَكروهٌ فعليها ألا تُصابَ بالوساسِ أنهُ بسببِ دعائِها عليهم، ولْتطْمَئِنَّ بربٍ توابٍ حَليمٍ رحيمٍ..
وأخيرًا يأتي السؤالُ الثالثُ المُتَبَقِّي:
ما الحلُ لِمَن لازالَ لسانُها يَفلِتُ؟
والجوابُ:
حلٌ عمليٌ مُصاغٌ في سِتِ نِقاطٍ، نَجمَعُها فِي المقالةِ القادمةِ، بعدما نحكي قصةَ جُرَيج بإذنِ الله…