المرأةمنوعات

ممنوعات5: أبًدا ما فضَحتُك.. “لو ستَرتَه بردائِك لكانَ خيرًا لك”…

فنُّ الكتابة في الصفحة البيضاء...

قالت لي:
((إلى الآن أتذكرُ شكوى أقاربى من أبنائِهم ونحن صغار.. لا أنسى أبدًا قصةَ فلانة عن ابنِها الذي كان يشربُ السجائرَ في الثانوية، وفلانة التي كان ابنها يهرب من الدروس.. وغيرها من الفضائحَ التي لا يعلمُ أصحابُها إلى الآن أني أعرفُها عنهم، وما عرفتُها سوى من حَكايا أمهاتِهم..
وكم تخيلتُ مرارةَ ذلك لو حدثَ لي، فالمرءُ حينَها يَشعُرُ وكأنَّ وظهرَه مكشوف))..

وغيرُها قالت:
((أذكرُ إحدى الأمهاتِ وهي تتحدثُ عن أولادِها الذين في الابتدائيةِ والإعداديةِ، بانتشاءٍ وزهوٍ وكأنها تحكِي طُرفَةً ومَفخَرَةً: “ضربَهم أبوهم أمسُ بشماعةِ الملابس ليستذكِروا دروسَهم..”

وأخريات تقول أمام الناس:
((ابنتي تضعُ أصبعَها في أنفها! أو ابني يسرِقُ من إخوتِه طعامَهم لشدةِ شراهتِه! أو ابنتي تجلسُ كثيرًا أمامَ المِرآةِ لتتزينَ قبل مَجِيءِ صويحباتِها للبيتِ، وكأن عريسًا قادِمٌ! أو ابني ينامُ عن صلاةِ الفجرِ هربًا من البرد..))

هكذا يتحاكَى بعضُ الآباءِ بمعايِبِ أبنائِهم علنًا، وربما وأبناؤُهم حاضرون -وهذا أشدُ إيلامًا..
يفعلونها تنفيسًا للغضبِ أو الثرثرةِ أو الضحِك، ولا يكترثون بوقعِ ذلك في نفوسِ أبنائهم، وموقعِه من الشرعِ حين يتمُ بدون مُبرِرٍ مُعتَبَرٍ أو مصلحةٍ راجحةٍ ثابتةٍ شرعًا..

=قال ابنُ المبارَكِ: “كان الرَّجلُ إذا رأى مِن أخيه ما يَكره، أمره في سِتْرٍ، ونهاه في سِتْر، فيُؤجَرُ في سِتْرِه، ويُؤجَرُ في نهِيه… فأمَّا اليومَ، فإذا رأى أحدٌ مِن أحدٍ ما يَكرَه، استغضَبَ أخاه وهَتَكَ سِتْرَه”*
=وقال ابنُ عِياض: “المؤمنُ يَسْتُرُ ويَنصَحُ، والفاجرُ يَهتِكُ ويُعيِّر”*1..
=وعن أحد السلف: “مَن ذَكَرَ عَوراتِ المؤمنين، فقد هتَكَ سِتْرَ اللهِ المَرخَىَّ على عبادِه”*2..

==وأظلمُهُن، من لا تَذكُرُ إلا سوءاتِ ولدِها، فتنشرُ فضائحَه وتَكتُمُ خيرَه…
وأعيذها مما قاله ابن القيم في ذلك: “من النَّاس مَن طبعه طبعُ خنزير: يمرُّ بالطَّيِّبات فلا يلوي عليها، فإذا قام الإنسان عن رجيعه ((قَمَّهُ))/ أي: انكفأ عليه ليأكله”*3

واعتبر العلماءُ كلامَ الأمِ مع الآخرينَ عن وَلَدِها بما يكرَهُ أن يقالَ عنه، وبدونِ مُسَوِّغٍ شرعيٍ -كطلبِ مشورةٍ أو دعمٍ/ أو تقديمِ عِبرةٍ أو تحذير/ ونحو ذلك: (((غِيبةً محرمةً))).. فكأنكِ تأكلين لحمَ مَيتَةَ أبنائِكِ والعياذُ بالله..

==وأظلمُ منهما، مَن فضَحَت أمرًا قد اطَّلَعَت عليه بالتجسسِ على ولدِها..
ونقصد: التجسسَ غيرَ المشروع، فلو هناكَ قرينةٌ أو ضررٌ راجحٌ يدفعُ الآباءَ للتجسسِ على الأبناءِ لإنقاذِهم من شرورِ أنفسِهم، فلا حرج..
وسِوى ذلك: فمُحَرَّمٌ وهتكٌ للسترِ الذي بينهم وبين ربِهم..
فهؤلاء لهم حُرمَةٌ وحقوقٌ وليسوا مِلكيةً خاصةً بنا..

وما الآيةُ التي فيها: { {وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا}} [الحجارات:12]، إلا لتعليمِنا سدَ منافذِ الفضائح…
فالغيبةُ: نشرٌ للكلامِ المكروه عن الشخص، والذي ربما يكونُ غيرَ مَعلومٍ للمستمعِ، فتقعُ الفضيحةُ..
والتجسسُ: هَتكٌ للسِترِ المَرخِيِّ، وجِسرٌ لعبورِ الفضائح..
قال مُجاهدٌ عن {وَلا تَجَسَّسُوا}: “خذوا ما ظهرَ لكم، ودعُوا ما سَتَر الله”*4

وقال النبيُ ﷺ:
“يا معشرَ من آمن بلسانه، ولم يَدخلِ الإيمانُ قلبَه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عَورَاتهم، فإنَّه من اتَّبع عَوراتهم يتَّبعِ اللهُ عَوْرتَه، ومن يتَّبعِ اللهُ عَوْرتَه يفضحْهُ في بيتِه..”*5
 
وعلى الناحيةِ الأخرى:
**أعرفُ أُمًا ظلَ ولدُها يُعانِي من التبولِ الليليِّ حتى بعدَ البلوغِ بفترة، ولم يعرفْ بالأمرَ أيٌ من أهلِهم، ولا حتى إخوتُه الذين معه في بيتٍ واحد!
هي ووالدُه فقط..!
حتى استجابَ اللهُ دعاءَهم وعافاه.. ولازال سرًا لا يعرفُه أحد..!

**وأعرف أمًا ارتكبَ ولدُها منكراتٍ يندَى لها الجبين، ثم تابَ اللهُ عليه بعد سنواتٍ من بذلِ الأسبابِ والدعوات.. فأحبتْ أن تنقلَ للأمهاتِ قصتَها ليتعلموا العلاجَ، لكنها آثرَتْ ألا تكشِفَ اسمَها لئلا تفضحَ ولدَها -رغمَ رفعِه الحرج عنها بالفعلِ لأجلِ أن معرفةَ الناسِ بهويتِهما سيكونُ أبلغَ في الأثرِ وأوسعَ في التفاعُل!- لكنها كأمٍ عاشت على سِترِ ولدِها، ما كانت لِتُنهِي تلك المسيرةَ المشرفةَ بفضحٍ له بعدما تاب، حتى لو كان من وراءِ ذلك مصلحةٌ متحققةٌ، فألأولَى مِن المصلحةِ: دفعُ الضرر.. وإن تعارضَتْ مصلحتانِ نقبلُ بأقلِهما ضررًا..
فربما ابنُها غيرُ مُعارِضٍ الآن، لكن فيما بعدُ قد يندمُ ويتمنى لو كانت أمُه تريثَتْ..

بل أحيانًا أجِدُ ولدِي حين يُخطِيء وألومُه ثم نتصالحُ، يقولُ: “هل ستخبرين أبي وتفضحينني؟”! وبدهشةٍ أحاولُ كلَ مرةٍ إفهامَه أن إعلامَ والدَه ليس بفضحيةٍ فهو شريكي في تربيتِهم ويجبُ أن يطّلعَ على تطوراتِها التي غابت عنه لئلا يفوتَه شيءٌ من حُسنِ تقويمهم.. ومهما حاولتُ إقناعَ ولدِي يَظَلُّ مهمومًا لشعورِه بالصغارِ بعدما اكتشفَ قُبحَ خطئِه، ويتخيلُ معرفةَ والدِه بزلتِهِ مُجددًا أو كونًه لازالَ بهذه التفاهةِ ونحو ذلك= فيتألمُ..
فمجرد إدراكُه أن هناك شخصًا سيعرفُ= يؤلمُه، حتى لو كان الشخصُ أباه الذي يحبه ويحرصُ عليه ويُؤَمِّنُه من العقاب/ وحتى لو كان الأمرَ لا علاقةَ له بالفضحيةِ..
حتى صِرتُ أحيانًا أستجيبُ لطلبِه في أمورٍ بسيطةٍ ومكرَرَةٍ ولا مشكلةَ في كتمِها عن والدِهم، من بابِ طمأنتِهِ وجبرِ خاطرِه وإقناعِه بهدفي حقًا من هذا الأمرِ حينَ أفعلُه..

الشاهدُ من كل ذلك:
التأكيدُ على أن شعورَ الفضيحةِ مَريرٌ.. لا يطيقُه أحد..
وهو من أشدِ إهاناتِ الآخرة…
ومعافاةُ المرء منه يومَئذٍ هو من أعظمِ البشرياتِ، حين يُرخِي اللهُ كنفَهُ وسِترَه على عبدِه ليُعَرِّفَهُ وحدَه بذنوبِهِ التي سيغفرُها له بعدما سترَها عليه في الدنيا..
ولذلك كان النبيُ ﷺ يقول صُبحًا ومَساءً: “اللهم استر عوراتي..”..
وحثَّنا على السِترِ وبشرَنا بمضاعفةِ أجرِه قائلًا: “مَن سترَ مسلمًا سترَه اللهُ يومَ القيامة..”*6
والسَترُ: هو “سَترُ سوءةِ المُسلمِ الحسيةِ والمعنويةِ وعيوبِه، بعدَمِ إظهارِهم ولا اغتيابِه،/ والذَّبُّ عنه، والسَترُ عليه إن وقعَ في معصية، بشرط أن لا يُعلنَها ويَجهَرَ بها فلا يكونُ معروفًا بالفسادِ.. فالمعروفُ باستقامتِه إذا زَلَّ، نُوصِح وسُتِر”*7

بل حثتِ الشريعةُ على السَترِ حتى في الكبائر..
بل نهت عن هتكِ المرءِ سِترَ نفسِه، وحثتْهُ على التوبةِ من المعصيةِ سِرًا وعدمِ فضحِ نفسِه، وتوعدتِ المجاهرين:
==مثلا:
قصةُ ماعز.. الذي ذهبَ للصِّدِيق ثم للفاروقِ ليعترفَ على نفسِه بالزِنا، فنصحاه بالتوبةِ منها وعدمِ إخبارِ أحد.. فلم يفعل! وذهبَ للنبيِ ﷺ وأخبرَه.. فأعرضَ عنه ﷺ ثلاثَ مراتٍ.. والرجلُ يُصِرُّ عليهِ ﷺ! حتى أرسلَ ﷺ لأهلِ الرجلِ يسألُهم: هل به مَرض أو جنون!؟ فلما تبينَ أنه صحيحٌ= لم يكن مَفَرًّا من إقامةِ الحد.. فَرُجِمَ حتى الموتِ، لأنه كان ثيِّبًا..
وسببُ كلِ ذلك:
رجلٌ اسمُه هَزَّال.. هو من نصحَ ماعزَ، بإخبارِ معصيتِه لهم..
فقال له ﷺ: ((يا هَزَّال.. لو سَتَرتَه بردائِكَ لكان خيرًا لك))..*8
أي: لو ستَرتَهُ بأن أمَرتَهُ بالتَّوبةِ، وكتمانِ خطيئتِه..
والرِّداءُ: على سبيلِ المبالغة، بمعنى: “لو لم تجد طريقةً لسَتْرِه إلَّا بسَترِهِ بردائِكَ عن أعينِ الشهود، لكان أفضلَ ممَّا فعلتَ..*11

==ومثلُها:
قصةُ شُرَحْبِيل بن السِّمْط..
كان على جيشٍ، فقال لهم: “إنَّكم نزلتم أرضًا كثيرة النِّساء والشَّراب -أي: الخمر- فمن أصاب منكم حَدًّا فليأتِنا فنطهِّره”.. فأتاه ناسٌ..!
فبلغ ذلك الفاروقَ… فكتبَ إليهِ: “لا أمَّ لك! أنت الذي يأمرُ النَّاسَ أن يهتِكوا سِتْرَ اللهِ الذي سَتَرَهُم به!!؟”*9

==وفي المجاهرين بفضائحهم قال ﷺ:
“كلُّ أمَّتي معافى إلا المجَاهرين، ومن المجَاهرة: أن يعمل الرَّجل باللَّيل عملًا، ثمَّ يصبح وقد سَتَرَه اللهُ عليه، فيقولُ: ((يا فلان، عمِلتُ البارحةَ كذا وكذا…))!.. وقد باتَ يَسْتُرُه ربُّه، ويُصبِحُ يَكشِفُ سِتْرَ اللهِ عنه”*10

فكلُ ذلك يؤكدُ خطورةَ الاستهانةِ بإبرازِ الفضائحِ والسوءاتِ، فإنه:
*يُجَرِّيءُ المَفضوحَ على العنادِ والخطأِ أكثرَ، ويُيَئسُهُ من تزكيةِ نفسِه، فيؤجِلُ توبتَه، ويُعانُ شيطانُهُ عليه..
*ويُجَرِّيءُ الناسَ على الخطأِ، لظهورِ المجتمعِ كمجتمعٍ أكثريتُه فاسدون..
*ويفتنُ الذين يتخذونَهُ قدوةً لهم ولأبنائِهم.. ويُنفِّرُهم مِنه..
*ويُوغِرُ الصدورَ ويؤلِمُها ويتركُ ندباتٍ تَعوقُ النموَّ النفسِيَّ السليمَ، ويُفسِدُ العلاقاتِ الأسرية..
*ويُجَرِّيءُ الآخرينَ على انتهاكِ حرمةِ ولدِكِ واغتيابِه والاستهزاءِ به..

لذلك ننصحُ حتى الأمهاتِ اللاتي يَطلُبنَ استشارةً، سواءٌ سرًا في رسالةٍ أو علنًا في تعليقٍ مثلا، أن يَصِغنَ السؤالَ بصيغةٍ حمَّالةِ أوجُه:
فبدلًا من قولِ: ((ابني يكذِبُ/ أو يشتمُنا/ أو لا يغُض بصرَه/ أو يسمَعُ الأغاني… فماذا أفعل؟))
==الأستَرُ والأفضلُ تقولُ: ((لو أمٌ يفعلُ ولدُها كذا، فماذا تفعل؟))
إلا بالطبع ما كان في أمورٍ يسيرةٍ لا تَرقَى لأن تكونَ فضيحةً ولا تُسببُ حرجًا للأبناء.. والأولَى السَترُ على كل حال..

فلْنُعِدَّ العُدَّةَ مِن الآنِ للثمرةِ المَرجوةِ التي ذكرناها في بدايةِ سلسلةِ الممنوعات:
أن تقولِي يومًا لولدِكِ بكلِ فَخرٍ ولله الحمد: “أبدًا ما فضحتُك”….
أو تقولي: “منذ تُبتُ وأنبتُ إلى الله في ذلك بحمد الله: أبدًا ما فضحتُك”..

وإلى اللقاءِ مع الممنوعِ السادس: “أبدًا ما ربيتُكَ لمنفعتِي الخاصة”..
في المقالةِ القادمةِ بإذن الله..

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى